فلسطين والتقاء الصهيونية واللاسامية

من أشد مفارقات أوروبا الحديثة التي أسست دولاً قومية صهرتفي بوتقة المواطنة مكوناتها العرقية والطائفية والمذهبية بعد احتراب دموي امتد لقرون،وأزهق حياة الملايين من البشر، وخلف دماراً مادياً هائلاً قل نظيره في التاريخ البشري،هي أنها ذاتها، (أوروبا الحديثة)، التي أنتجت الحركتين: الصهيونية واللاسامية كظاهرتينأيديولوجيتين سياسيتين جمعتهما- إلى حد كبير- الأهداف، وإن اختلفتا في الدوافع، حيثالتقتا عند اعتبار أتباع الديانة اليهودية الموزعين، كأتباع كل ديانة، على مواطنة متعددةالقوميات، أمة وجنساً وقومية، وتشاركتا في العمل على قطع سياق اندماجهم في النسيج الوطنيلمجتمعاتهم، فكان أن تمخض فكر الحركتين عن اختراع “الشعب اليهودي”، و”صلتهالتاريخية بأرضه”، وحقه في الهجرة إليها واستيطانها وإقامة “الدولة القوميةاليهودية” عليها. وكانت الضحية فلسطين وشعبها الذي يشكل جزءاً من أمة عربية عريقةحالت اتفاقية سايكس-بيكو الاستعمارية التمزيقية للوطن العربي، (وهذه مفارقة أخرى منمفارقات أوروبا الحديثة)، دون نجاحها، (الأمة العربية)، في بناء دولة قومية حديثة.
في الظاهر يتراءى الجمع بين الصهيونية واللاسامية وكأنه افتراءلا مثيل له، لكن شواهد التاريخ الملموسة تؤكد أنه حقيقة لا شك فيها. فالصهيونية واللاساميةلم تتفقا على فكرة إيجاد حل لمجموع التجمعات اليهودية في العالم، أو إيجاد حل لهذاالتجمع اليهودي أو ذاك، فحسب، بل اتفقتا- أيضاً- على فكرة جمع اليهود من مختلف أرجاءالعالم، و”غرسهم” في فلسطين بالذات. خذوا على سبيل المثال لا الحصر:
في العام 1878 عرض جوزيه إيشتوسي، وهو من أشهر اللاساميينالمعادين لليهود، مشروع قرار على البرلمان المجري يدعو فيه إلى تأييد ودعم “إقامةدولة يهودية في فلسطين”، بل وعرض مشروع القرار ذاته في مؤتمر برلين الذي انعقدفي الفترة ذاتها، بغرض نقله إلى حيز التنفيذ، وتوسيع جهات ودوائر تأييده ودعمه كمشروعمطروح للتطبيق. ومثل جوزيه إيشتوسي اللاسامي هذا، إنما بعد عقدين من الزمان، نجح ثيودورهيرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل في سويسرا،1897، وفي توحيد صفوف المؤتمرين حول الدعوة إلى “إقامة دولة يهودية نموذجية تشكلملجأ آمناً لليهود”، وفي إنجاح توصية المباشرة في “إقامة هيئات ومؤسسات لإخراجالفكرة إلى حيز التنفيذ في “أرض إسرائيل”، أي فلسطين. ومثل اللاسامي جوزيهإيشتوسي ومؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل، إنما بعد عامين على صدور “وعدبلفور” الاستعماري القاضي بإقامة “وطن قومي لليهود في فلسطين”، أعلنحاييم وايزمان في العام 1919، كرئيس للمنظمة الصهيونية العالمية آنذاك، أمام الاتحادالصهيوني الإنجليزي: “عندما أقول وطناً قومياً يهودياً فإنني أعني خلق أوضاع تسمحلنا، بأن يدخل إليه العدد الوفير من المهاجرين اليهود، وأن نقيم في نهاية الأمر مجتمعاًفي فلسطين بحيث تصبح فلسطين يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية أو أمريكا أمريكية”.
وعلى خطى مؤسسيْ الحركة الصهيونية، ثيودور هيرتزل وحاييموايزمان، وقبلهما اللاسامي جوزيه إيشتوسي، أعلن نتنياهو في نهاية إبريل/ نيسان من العامالجاري، 2014، كرئيس لحكومة المستوطنين الحاكمة في “إسرائيل” عن ضرورة”تجديد القيم الصهيونية” عبر حث “الكنيست” ودعوته إلى سن قانونأساسي “يحصن اعتبار “إسرائيل” دولة لشعب واحد هو الشعب اليهودي”و”يصون صلته التاريخية بأرضه” و”يحفظ حقه في الهجرة إليها”.
هنا لئن كان هدف جمع اليهود من مختلف أنحاء العالم لإقامة”دولة يهودية في فلسطين”، كهدف اتفقت عليه، رغم اختلاف الدوافع، الحركتانالصهيونية واللاسامية كحركتين أوروبيتين عنصريتين أحدثتا ردة فكرية تاريخية على مفهومالمواطنة الحديث، (الأوروبي المنشأ أيضاً)، فإن “وعد بلفور” الاستعماري الغربأوروبي هو ما مهد لتحويل هذه الردة الفكرية العنصرية إلى حقيقة سياسية بنص يقول:”إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي،وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل منشأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمةفي فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.فبهذا النص الملتبس وحمال الأوجه أختُرِع لطائفة دينية يتوزع أتباعها، ككل طائفة دينية،على “مواطنة” متعددة القوميات، مكانة شعب يستحق دولة، بينما أعيدت مكانةشعب قائم وحدت “المواطنة” مكوناته إلى وضعية طوائف تستحق التمتع ب”حقوقمدنية ودينية” ليس إلا.
عليه، لم يكن عجباً أن يمارس قادة “دولة””إسرائيل”، منذ قيامها وحتى يومنا هذا، الحكم ويقوننوه ويشرعوه على أساسعنصرية أنها “دولة لليهود” فقط من نشيدها إلى قوانينها الأساسية خصوصاً المتعلقةمنها بالجنسية والتملك والبناء والتصرف بالأرض. أما لماذا الآن يصر قادتها على انتزاعالاعتراف بها “دولة يهودية”؟ يجيب الصحفي “الإسرائيلي” ديفيد بارزيلايفي مقال له في صحيفة “معاريف” بتاريخ 2-4-2014 بالقول: “كما هو معروفكان التخوف سابقاً أن تقرر الدول بأنه إذا كان لليهود دولة، فيجدر بهم أن يغادروا وينتقلواللسكن فيها، بل وأن تفرض ذلك عليهم. وتخوف آخر كان أن المحافل المناهضة لليهود ستتهميهود الشتات، ولا سيما يهود الولايات المتحدة، بالولاء المزدوج. لكن لم يعد واقعياًفي القرن ال21 مطالبة اليهود مغادرة بيوتهم في الولايات المتحدة أو في أوروبا لمجردأن لهم وطناً قومياً في “إسرائيل”، فحتى هجرة المكسيكيين إلى الولايات المتحدةوالمسلمين إلى أوروبا لا تجر طلباً بأن يعودوا إلى وطنهم. وبالتأكيد يوجد إجماع علىأن مثل هذا الطلب ليس واقعياً”.
خلاصة القول: الظلم التاريخي الذي لحق بفلسطين وشعبها، بلبالوطن العربي وشعوبه قاطبة، لم يكن ليقع إلا بفضل أكثر ظواهر أوروبا الحديثة رجعيةوبؤساً: الاستعمار والصهيونية واللاسامية كحركات عنصرية عدوانية التقت أهدافها، وكلمنها لدوافعها الخاصة، حول اختراع “الشعب اليهودي” و”أرض الشعب اليهودي”،كما برهن باحثون كثر، منهم الباحث اليهودي الجريء والمتنور، شلومو ساند، في كتابينقيمين يستحقان القراءة والاقتناء.
صحيفة الخليجالإماراتية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

45 شهيدًا بمجازر إسرائيلية دامية في مخيم جباليا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد 45 مواطنًا على الأقل وأصيب وفقد العشرات - فجر اليوم- في مجازر دامية ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بعدما...

صاروخ يمني فرط صوتي يستهدف مطار بن غوريون ويوقفه عن العمل
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام قال المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية، العميد يحيى سريع، إن القوات الصاروخية استهدفت مطار "بن غوريون" في منطقة...

المقاومة تقصف عسقلان وأسدود وغلاف غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام تبنت " سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، مساء اليوم، قصف اسدود وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة برشقات...

لازاريني: استخدام إسرائيل سلاح التجويع جريمة حرب موصوفة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، فيليب لازاريني، إن استخدام "إسرائيل"...

24 شهيدًا وعشرات الجرحى والمفقودين بقصف محيط المستشفى الأوروبي بخانيونس
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام اسشتهد 24 فلسطينياً وأصيب عدد كبير بجراح مختلفة فيما فُقد عدد من المواطنين تحت الركام، إثر استهداف إسرائيلي بأحزمة...

المبادر المتخابر في قبضة أمن المقاومة والحارس تكشف تفاصيل
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت مصادر أمنية اعترافات عميل تخابر مع الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء "مبادر مجتمعي"، لجمع معلومات حول المقاومة...

حماس: قرار الاحتلال بشأن أراضي الضفة خطوة خطيرة ضمن مشروع التهجير
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إنّ قرار الاحتلال الإسرائيلي إعادة تفعيل ما يُسمّى “عملية تسجيل ملكية الأراضي...