عاجل

الثلاثاء 01/أكتوبر/2024

استراتيجية التدخل الإسرائيلي في جنوب السودان

استراتيجية التدخل الإسرائيلي في جنوب السودان

صحيفة القدس العربي اللندنية

ذكرت في مقالات سابقة أن ما يجري في السودان سواء في إقليم دارفور أو جنوب السودان لا يمكن أن يكون عملاً منعزلاً عن واقع السياسة الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، وأن الهدف الأساسي من هذه السياسات هو مصر، وقد تكشف الأمر أخيراً عندما ظهرت تفاصيل دراسة كتبها العميد الإسرائيلي المتقاعد موشي فرجي أعدها لمركز دراسات الشرق الوسط في جامعة تل أبيب بعنوان “”إسرائيل” وحركة تحرير جنوب السودان، نقطة البداية ومرحلة الانطلاق”.

ويقول العميد فرجي إن الصراع الذي ظهر في جنوب السودان بدا في أول أمره وكأنه حدث محلي، ولكنه استرعى في مرحلة لاحقة الاهتمام الإسرائيلي ولم يكن ذلك شانه في أول الأمر لأن “إسرائيل” كانت تنظر إلى الصراع في جنوب السودان على أنه لا يتعلق بدولة من دول المواجهة معها، كما أن السودان لم يكن من وجهة نظر “إسرائيل” من الدول التي تتبنى مواقف متشددة منها، ولم يقدم دعماً حقيقياً للرئيس جمال عبد الناصر في مواقفه المختلفة من “إسرائيل”، خاصة في حملة قاديش وخلال العدوان الثلاثي على مصر أو خلال حرب عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين. وتقول الدراسة إن السودان لم يتخذ موقفاً عدائياً من التغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية وخاصة عندما كانت “إسرائيل” تحاول تعميق علاقاتها مع الإمبراطور هيلاسيلاسي في إثيوبيا وأخيراً مع كينيا وأوغندا.

ولكن حدث تطور مهم في المؤسستين الاستخبارية والعسكرية بشأن السودان، ليس بسبب مواقف سابقة بل بسبب ما يمكن أن يشكله السودان من خطر على الأمن الإسرائيلي مستقبلاً، باعتباره عمقاً حقيقياً لمصر التي هي في نظر “إسرائيل” أكبر خطر يتهددها، ورأت “إسرائيل” أن الخطر الذي يشكله السودان بالنسبة ل”إسرائيل” يشبه إلى حد كبير الخطر الذي يمكن أن يشكله العراق، وبالتالي يجب أن يكون التعامل مع السودان بالمستوى نفسه الذي يكون فيه التعامل مع العراق، ويجب أن يرتكز ذلك على التباين العرقي والطائفي والمذهبي الذي هو في نهاية الأمر الضمان الوحيد لكي يصبح السودان عاجزاً عن القيام بأي عمل كبير ضد “إسرائيل” أو تقديم الدعم ضدها لدولة في حجم مصر.

وبالتالي فقد رأت “إسرائيل” توسيع استراتيجيتها المخصصة للقرن الأفريقي بحيث يدخل إلى صميمها الموقف من جنوب السودان. ويقول فرجي إن هذه الإستراتيجية صاغها بن غوريون وأوري لورياني وبالتالي فقد بدأت “إسرائيل” فوراً بالتحرك لدعم كل الحركات الانفصالية التي تهدد الحكومة المركزية في الشمال. ويأتي هذا الموقف من “إسرائيل” بعد أن اعترفت الدراسة أن “إسرائيل” حاولت أن تتغلغل في صفوف الزعامات في شمال السودان ولكنها فشلت في أن تحقق نجاحاً يذكر. بل إن السودان بدأ تدريجياً في الدخول إلى الخندق المعادي ل”إسرائيل” خاصة خلال حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973.

وقالت الدراسة إن “إسرائيل” جعلت من إثيوبيا مرتكزاً لها وقد تولى الاتصالات مع متمردي جنوب السودان دافيد كمحي المدير السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وقالت الدراسة إن الدعم الإسرائيلي هو الذي مكن حركة التمرد من الاستيلاء على مدن رئيسية في جنوب السودان، وكانت “إسرائيل” تمد المتمردين بالسلاح كما كانت تقوم بتقديم الاستشارات والتدريب من خلال خبرائها المقيمين في إثيوبيا. واستخدمت الحكومة الإسرائيلية سياسة جديدة أطلقت عليها اسم (شد الأطراف) استهدفت توتير العلاقات بين الحكومة السودانية والدول المجاورة حتى لا تتمكن الحكومة السودانية من تنفيذ سياساتها بالتعاون مع هذه الدول.

وحددت “إسرائيل” خمس مراحل لتنفيذ استراتيجيتها في السودان، المرحلة الأولى بدأت في مرحلة الخمسينيات حيث كانت “إسرائيل” تركز على تقديم معونات إنسانية للنازحين عبر الحدود السودانية إلى إثيوبيا، وكانت “إسرائيل” تحاول من خلال تقديم مساعداتها في هذه المرحلة تعزيز الاختلافات القبلية والعرقية وتوسيع شقة التنافر بين الشمال والجنوب ودعم كل الاتجاهات الانفصالية، وقد أوفدت العقيد باروخ بار سفير وعدداً من أفراد الاستخبارات الإسرائيلية للعمل من خلال أوغندا لدعم هذا الهدف.

وفي المرحلة الثانية التي بدأت خلال مرحلة الستينيات بدأت “إسرائيل” في دعم قوات الأنيانيا وتدريبها، وخلال هذه المرحلة تبلورت رؤية “إسرائيل” التي ترى أن شغل السودان في مثل هذا الواقع لن يترك له أي مجال لدعم مصر في أي عمل مشترك ضد “إسرائيل”، وتقول الدراسة إن هذه السياسة وجدت قبولاً من بعض العناصر في جنوب السودان وذلك ما شجع “إسرائيل” على أن تبعث بعناصرها إلى الجنوب مباشرة للعمل تحت ستار تقديم الدعم الإنساني، وتقول الدراسة إن “إسرائيل” قدمت دعماً من الأسلحة الروسية في عام 1962 لدعم حركة التمرد في الجنوب وأن تلك الأسلحة كانت من التي غنمتها من مصر في حرب عام 1956 بالإضافة إلى الرشاش الإسرائيلي عوزي.

وبدأت المرحلة الثالثة في منتصف الستينيات واستمرت حتى مرحلة السبعينيات وخلالها قامت “إسرائيل” بتقديم أسلحة إلى متمردي الجنوب من خلال وسيط يسمى جابي شقيق وهي أسلحة غنمتها “إسرائيل” خلال حرب عام 1967.

وتقول الدراسة الإسرائيلية إنه خلال هذه المرحلة تم إحضار مجموعات من المتمردين الجنوبيين إلى “إسرائيل” لتلقي التدريب وكان من بينهم العقيد جوزيف لاقو الذي مكث في “إسرائيل” ستة أشهر. وأسست “إسرائيل” خلال هذه المرحلة مدرسة خاصة لتدريب المشاة تخرج الكوادر العسكرية التي تقود حركة التمرد. وقد شاركت خبرات إسرائيلية بالفعل في بعض المعارك التي جرت في جنوب السودان.

وتقول الدراسة إن مرحلة السبعينيات كانت نقطة تحول أساسية حيث قام حاييم ماساتي رجل المخابرات الإسرائيلي بالتنسيق من خلال سفارة “إسرائيل” في أوغندا مع قادة حركة الإنيانيا.

وعندما أصبحت حركة التمرد على وشك الانتهاء في عام 1969 بدأت “إسرائيل” تفكر في مخطط جديد يؤدي إلى حركة تمرد دموي شاملة تنتظم منطقة الجنوب بأسرها، وركزت “إسرائيل” خلال هذه المرحلة على الوشائج التاريخية بين الشعب اليهودي والشعوب الأفريقية منذ عهد الملك سليمان، كما ربطت “إسرائيل” بين ما اعتبرته شبهاً بين الحركة الصهيونية وحركات الجماعات الأفريقية الزنجية، وقد تأثر التغلغل الإسرائيلي سلباً بالمصالحة بين المتمردين والحكومة السودانية في عام 1972.

وأما المرحلة الرابعة فقد استمرت طوال عقد الثمانينيات وعادت “إسرائيل” إلى المشهد السوداني من جديد بعد إخفاق اتفاقات أديس أبابا وظهور حركة تمرد جديدة بقيادة العقيد جون قرنق، وقد وجدت “إسرائيل” دعما غير مسبوق من إثيوبيا كما أن حركة التمرد اكتسبت زخماً جديداً بعد ظهور النفط في جنوب السودان والتوتر الذي ظهر في العلاقات العربية بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد، وكانت اتفاقات “إسرائيل” مع منغستو هايلي مريم تنص على إرسال جزء من الأسلحة المتفق عليها إلى “إسرائيل”، ومنها صفقة دبابات، كما ساعدت الأقمار الاصطناعية الإسرائيلية في تقديم المعلومات المتعلقة بانتشار القوات الحكومية في جنوب السودان. واستمر الدعم في المرحلة الخامسة خلال مرحلة التسعينيات بتقديم دعم أكثر تطوراً وإن تأثرت المساعدات الإسرائيلية بمناخ المصالحة بين السودان وإثيوبيا. وقد تأثرت حركة التمرد بانقسامها إلى ثلاثة فصائل كما أن سقوط نظام منغستو أثر سلباً على الدعم الإسرائيلي، ولكن التطورات في القرن الأفريقي فتحت مجالاً جديداً للتغلغل الإسرائيلي في المنطقة.

وتقول الدراسة إن حركة التمرد طلبت في عام 1992 أربعة ملايين طلقة لمدافع رشاشة وخمسة ملايين دولار من أجل استرداد قاعدتي كبويتا وتوريت لأجل تعزيز موقف الحركة التفاوضي في مباحثات السلام، وبعد حدوث الانقسام بين قرنق ورياك مشار ولام أكول حاولت “إسرائيل” تعزيز علاقاتها حسب التقرير مع جناح الناصر بعد أن ظهرت اتجاهات وحدوية عند قرنق وتخليه عن فكرة المطالبة بدولة مستقلة.

وتركز الدراسة على أن الدعم الإسرائيلي هدف إلى إحباط الدعم العربي للحكومة السودانية وعرقلة العمل في قناة جونقلي والتحذير من هجرة الفلاحين المصريين إلى جنوب السودان والتركيز على أن يكون الجنوب دولة مستقلة بهوية أفريقية، وأرسلت “إسرائيل” الخبير الاقتصادي البروفسور إيليا هولونفسكي من أجل تقدير الثروة النفطية الجنوبية ونصح الجنوبيين بالانتفاع بهذه الثروة، وأرادت القيادة الإسرائيلية إقامة علاقة مبكرة مع القادة الجنوبيين أسوة بعلاقاتها مع زعماء من الأكراد بحسب ما ذكره التقرير.

ويرى التقرير الإسرائيلي أن اتفاقات ماشاكوس لم تكن حلاً للخلافات بين الشمال والجنوب بقدر ما وضعت الأساس العملي والشرعي لانفصال جنوب السودان عن شماله وذلك من خلال قبول حكومة الشمال مبدأ تقرير المصير ومطالب أخرى تقدم بها جون قرنق.

* كاتب من السودان

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات