شق جلد الذات

صحيفة البيان الإماراتية

في نفس هذا الوقت من كل عام تنطلق فرقة النواح وجوقة العزف على إيقاع الهزيمة، وكأن 5 يونيو، صفحة في سجل لا يجب أن تمحى من ذاكرة مريضة، تريد أن تقتل الأمل في أي نصر يمكن أن يتحقق، كما حدث بعد ست سنوات من نكسة عام 67 من القرن الماضي.

نعم الهزيمة كانت مريرة على الجيل الذي تلقى صدمتها وهو في ريعان شبابه، لكن ما ذنب أجيال احدث ربما ولدت بعد عشرين عاماً من هذا الحدث المدوي في أن ينقل البعض مرارة الانكسار إليها، متجاهلاً أن الرجال الذين عاصروا الهزيمة هم أنفسهم من أزالوا الكابوس النفسي في أكتوبر 1973، وألحقوا أول هزيمة حقيقية بالإسرائيليين في الصراع الممتد منذ بدايات القرن الماضي.

كل الأمم والشعوب تعرضت لأيام فواجع، وهزائم ساحقة، غير أن الأمم الحية قادرة على تجاوز المحن، والإمساك بخيوط المستقبل، وبما يعيد التوازن النفسي إلى الشعوب، حتى تواصل مسيرتها الإنسانية بتفاعل إيجابي وقدرة على التطور والإبداع، وليس النكوص إلى الخلف والإغراق في صفحات الماضي الكئيبة.

في الحرب العالمية الثانية احتلت فرنسا من قبل الألمان، فقاتل الفرنسيون الأحرار من المستعمرات، قبل أن تلحق الهزيمة بالألمان الذين سرعان، ما ضمدوا جراحهم، وباتوا بعد سنوات قليلة قوة اقتصادية يحسب لها ألف حساب. وتعرضت اليابان لضربة نووية أميركية لم تواجه أية امة في التاريخ مثلها، لكنها اليوم تنافس من هزموها في عقر دارهم. لم يستسلم الفرنسيون للهزيمة واحتلال وطنهم، في وقت كانت جيوشهم تحتل الدول الأخرى، ولم يبك الألمان على اللبن الذي سكبه هتلر بغروره وتهوره، ولم يجلس اليابانيون يجترون كتاب الحزن على ضحايا الهمجية الأميركية على هيروشيما ونجازاكي، لكن سواعد اليابانيين والألمان والفرنسيين وغيرهم من الشعوب التي خرجت منتصرة أو مهزومة، دخلت في سباق مع الزمن لإعادة بناء ما دمرته الحروب وحماقات القادة المغامرين فتغيرت الواجهة بمقدار 180 درجة.

فلماذا العرب من دون الأمم وشعوب الأرض ما زالوا يلوكون هزيمة 5 يونيو حتى اليوم رغم مرور 40 عاماً على وقائعها الأليمة؟ ولماذا الإصرار على نقل الصورة الكئيبة بكل حذافيرها إلى الأجيال الجديدة وكأن العالم بدأ وانتهى في ذلك اليوم؟. هل نحن أمة تعشق جلد الذات؟ ولماذا فشل مثقفونا وإعلامنا في مداواة تلك الجراح الغائرة على مدى كل هذه السنوات؟ وما فائدة مراكز البحوث وجيش الباحثين الاجتماعيين والنفسيين العرب فيما الشارع العربي ينكفئ على الذات تقريعاً وإدانة ومحاسبة النفس على هذا النحو المازوكي؟

لقد آن الأوان للنظر إلى هزيمة 67 بطريقة مختلفة، تبعد قليلاً عن رواية التفاصيل المملة عن البداية والنهاية التي باتت محفوظة عن ظهر قلب، وجاء وقت النظر للأمام، بطريقة أكثر ثقة، رغم أن الواقع للأسف يدعو إلى الإحباط، فالعراق محتل والفلسطينيون غارقون في اقتتال داخلي، ولبنان منقسم على أجندته الداخلية والخارجية، والسودان واقع تحت سيف العقوبات الأميركية، فيما يعاني غالبة الشباب العربي من حصار البطالة وإسفاف الفضائيات التي يتعمد القائمون عليها تقديم الرخيص من اللهو والترفيه، أو الأفكار المتطرفة، أو الغرق في العدمية واللا جدوى.

غير أن هذه الصورة ليست وحدها في الميدان فهناك أيضاً محاولات وإن بدت محاصرة ومحدودة تحاول الإفلات، من خيوط التيئيس، واقتلاع الثقة من النفوس، وهؤلاء يبقون الأمل في الغد القادم مهما كانت الصعوبات، التي تواجه بلداننا في اللحظة المعاشة، وعلى هؤلاء يجب الرهان.