اللصوص يحرسون الكنوز

عندما دمر الطالبان تماثيل بوذا اهتز العالم من أقصاه إلى أقصاه، ولم يبق أحد إلا وتدخل بشكل ما. فالأمم المتحدة، وخاصة اليونسكو، والدول الأوروبية، والدول العربية، بما فيها الأزهر، وحتى الولايات المتحدة الأميركية، كل هذه الجهات هبت للدفاع عن التماثيل، وحين عجزت ودمر الطالبان التماثيل لم يبق أحد إلا وأدان هذه الجريمة التي اقترفت بحق الإنسانية كلها.
ولما لجأ الرعاع المسخرين إلى نهب المتحف العراقي، وتحطيم ما عجزوا عن حمله، وحين أحرقوا مركز الوثائق في بغداد، وكذلك المكتبة الوطنية، وما فاتهم حمله، أو تأخروا في ذلك لجأوا إلى إحراق المكتبة. كذلك فعلوا بالنسبة لمكتبة الأوقاف، التي تعتبر من المكتبات المهمة، لأن كثيرين كانوا يوصون بمكتباتهم الخاصة إلى هذه الجهة، وكانت هذه المكتبات تحوي عدداً كبيراً من المخطوطات المهمة والنادرة. وكذا الحال بالنسبة لسجلات النفوس والسجل العقاري ومؤسسات عديدة أخرى. وما عدا عدد محدود من ذوي الضمائر اليقظة الذين احتجوا على هذه الأفعال، فإن معظم الناس في العالم أصموا آذانهم أو تظاهروا بأنهم لم يروا. وهكذا بعد أسابيع سوف تطوى هذه الصفحة السوداء في التاريخ، وكأنها لم تكن، لأن الذي قام بهذه الفعلة الشنعاء ليس الرعاع واللصوص وإنما الولايات المتحدة، وإن استعملت أيدي الآخرين.
إن الولايات المتحدة تفاخر بالمتاحف التي لديها، في نيويورك وشيكاغو وبنسلفانيا، وفي مركز كل ولاية من ولاياتها الخمسين. بل أكثر من ذلك: لديها متاحف خارج المدن وفي عدد كبير من الجامعات، وفي هذه المتاحف معظم كنوز العالم من الآثار واللوحات والتماثيل، بحيث تعتبر ما تمتلكه هذه الدولة يفوق بعدده وأهميته ما تمتلكه أية دولة منفردة.
إن في متاحف الولايات المتحدة آثاراً بالغة الأهمية والحجم. فالآثار الفرعونية في متحف المتروبوليتان مثلاً توازي أو تفوق ما هو موجود في المتحف المصري، وما عدا الأهرامات والمسلات فإن الآثار المصرية تنتشر في متاحف المدن الصغيرة والجامعات.
هذه الآثار تم وضع اليد عليها بمقابل أو دون مقابل في أغلب الأحيان. فالسادات مثلاً وزوجته كانا يسحبان من المتحف أعمالاً مهمة ويهديانها إلى رؤساء الدول والأصدقاء، لأن هذه القطع هي السفارات الحقيقية لمصر، كما كان يقول السادات.
وما ينطبق على الآثار المصرية ينطبق من باب أولى على آثار الدول الأخرى، الصغيرة، بالمقارنة مع مصر. فآثار ما بين النهرين، وقسم كبير من نواويس تدمر، ولقى كثيرة من اليمن والأردن، وأماكن أخرى عديدة من المنطقة رحلت آثارها، بالبيع المهرب والهبة، وأصبحت تزين متاحف عديدة في العالم.
لقد لجأت الولايات المتحدة إلى عملية التكديس الهائلة من أجل سد النقص الذي يميزها وتشعر به.
ما يقال عن الآثار ينسحب على المخطوطات أيضاً، ففي مكتبات أميركا ملايين المخطوطات المسروقة أو التي تم شراؤها بأثمان زهيدة، بحجة أنها عديمة القيمة أو يمكن أن تحفظ في أمكنة مناسبة، وستعاد إلى مواطنها في يوم من الأيام.
إن المخطوطات المهمة والنادرة، والتي تتمتع بقيمة تاريخية وفنية، رحلت عن المنطقة العربية إلى عواصم الغرب وحواضره، وهناك قفل على القسم الأكبر، بحيث لا تتاح الفرصة أو العرض، أو مجرد الرؤية، والأمر نفسه ينسحب على الأعمال الخشبية والنحاسية والسجاد القديم النادر، وكذلك الحال بالنسبة للفسيفساء والتماثيل وأعمال الخزف وغيرها من المشغولات اليدوية.
أما ما يخص الأعمال الفنية الحديث من لوحات وتماثيل وأشغال أخرى فإنها تملأ المتاحف الأميركية عن بكرة أبيها، بحيث تعتبر أغنى من أية متاحف أخرى. حتى في مواطن الفنانين أنفسهم. لقد تم شراء هذه الأعمال في وقت مبكر، ونقلت إلى الولايات المتحدة. جرى ذلك عن طريق الأفراد، لكن بتشجيع الدولة وتحريضها. والآن إذا أقيم أي معرض فني استعادي لأي من الفنانين الكبار، فإن ما يصل إلى الولايات المتحدة لهذا الفنان يفوق ما يصل إلى أي مكان آخر.
ثم هناك ميزة في السلوك الأميركي، وهي تشجيع تزوير اللوحات وشراؤها، ثم بعد فترة مبادلتها بلوحات أصلية مع محاولة التكتم على رحلتها، خاصة أن المافيا العاملة في هذا الحقل متواطئة مع عدد غير قليل من المسؤولين عن المتاحف. ومن النكات الرائجة في هذا المجال: أن رمبرانت رسم طوال حياته ستمئة لوحة، ثلاث آلاف من هذه اللوحات موجودة في الولايات المتحدة!
* * *
قد تكون هذه المقدمة نافلة، لأن الجرح الذي يراد الحديث عنه هو ما حصل للمتحف العراقي والمرافق الأخرى التي أشرنا إلى بعضها. فبعد تجربتين أوليين في الهجوم على المتاحف في تكريت والناصرية، دون أن تخلفا ردود فعل جدية كانت (الحفلة) الكبرى في بغداد والموصل.
كان من أيسر الأمور حماية هذه المرافق، إذ يكفي أن توضع دبابة واحدة من دبابات (التحرير والفتح) عند كل مرفق لمنع هذا الذي حصل. لكن كان وراء تسهيل الوصول أمر مدبر ومبيت. فعمليات الإغراء والتشجيع للرعاع، والأغلب أنه تم تحضيرهم في وقت مبكر للقيام بهذا العمل، كي يتم التستر وراءه من أجل عمليات نهب منظمة وواسعة من قبل القوات الغازية أو عن طريق هذه الحثالات.
إن “إسرائيل” وأميركا ليستا بعيدتين عما حصل، إذ لم تكتف قوات الغزو بمشاهدة كل ما يحصل، وإنما حمت اللصوص ويسرت لهم أن يحملوا مسروقاتهم ويهربوا بها، وما تعذر حمله حطم أو أحرق، وإلا فكيف نفسر تحطيم أو نهب ما يزيد على سبعة عشر ألف قطعة أثرية؟ ولماذا تشعل النيران بالمكتبة ومركز الوثائق، وبعدد آخر من الدوائر والمؤسسات الحكومية؟
إن من يفتقد للتاريخ يحاول أن يخترع لنفسه تاريخاً ملفقاً. ومن يبحث عن تاريخ لكي يسند حججه وادعاءاته يمكن أن يفعل أي شيء من أجل الوصول إلى ما يعتبره أثراً أو مستنداً. وكلنا نتذكر كيف أن (موشي دايان)، بعد أن تتوقف النار قليلاً، كان يهب إلى الفأس ليبحث عن الآثار من أجل تعزيز حجة “إسرائيل” بأن اليهود مروا من هنا، وهذا هو الدليل!
حين بدأت التعبئة لخوض الحرب على العراق، تبارى قادة الولايات المتحدة في تحديد المآل والمصير الذي ينتظر العراق، ليس فقط من حيث الدمار، وإنما من حيث التخطيط لإرجاع هذا البلد إلى العصور الوسطى، أي إلى ما قبل الصناعة. والموقف من الآثار والمخطوطات وغيرها من الكنوز التي تراكمت عبر آلاف السنين، يهدف إلى خلق (ذاكرة) جديدة مزورة، إذ المطلوب تجريد العراق من تاريخه وتراثه، وأيضاً من علمائه الذين يشكلون الضلع الثالث في هذا المثلث.
إن حقداً أسود شريراً يملأ قلوب هؤلاء (المحررين)، إذ لا يتصورون أن لدى الخصم أي ميزة، وفي حال وجود ميزة مهما كانت، لا بد من تدميرها كي تختفي من الذاكرة. وبدل الجنائن المعلقة، وانتقاماً لبرج التجارة الدولي في نيويورك، رغم أن لا علاقة للعراق بذلك لا بد من الانتقام ليس فقط من صدام حسين، بل من آشور بانيبال ونبوخذ نصر وسعد ابن أبي وقاص وغيرهم. وما تنساه الذاكرة الأميركية المثقوبة، هناك الذاكرة الإسرائيلية التي تجمع وتراكم من أجل الانتقام، بهدف خلق وضع (جديد).
إن لم يكن هذا هو الهدف، وإن لم تكن هذه هي الأدوات، فكيف نفسر عمليات التدمير والحرق لمؤسسات ليس فيها ما يسرق أو ما يحمل، مثل السجل العقاري وسجلات النفوس؟
المهم الآن خلق أكبر كتلة من الإرباك والتداخل، ووضع سلم أولويات غير ما يحتاج إليه الشعب، أو يحقق مطالبه. فتأمين الماء والكهرباء والأمن والاستشفاء تفوق بأهميتها الملحة والعاجلة (الديمقراطية) التي جاءت الولايات المتحدة من أجل إقامتها، ولتكون أيضاً النموذج الذي يمكن أن يعم المنطقة.
إن وباء الكوليرا يهدد، بداية، البصرة، ويمكن أن يعم العراق، وربما مناطق أخرى، نتيجة تلوث الماء وانتشار الجثث المتفسخة في كل مكان، وخلو المستشفيات من الأدوية ووسائل العلاج. إن حالة مثل هذه لم تأت عفواً أو نتيجة الخطأ والسهو، وإنما هي حالة مدبرة ومقصودة. وإلا فكيف انصرف فسفور العقل الأميركي إلى حماية النفط سواء آبار الجنوب والشمال، ثم وزارة النفط ذاتها، كي ترجع إليها الاستخبارات المركزية وتضع يدها على كل ما فيها من معلومات وأرقام واحتمالات وعلاقات وتنسى المرافق الأخرى؟
لو بذلت قوات (التحرير) الحد الأدنى من الجهد في حماية المرافق الأساسية، ومن ضمنها ما أشرنا إليه، لما واجهنا هذه المأساة التي تبدو اليوم بعض مظاهرها الأولية، أما بعد أن يبرد الجرح، كما يقال، ونتأمل في ما حصل، فسوف نكتشف أن الخسارة ليست كبيرة فقط، وإنما لا تعوض، مما يعكس جوهر الحضارة الأميركية ومدى حرصها على التراث الإنساني، ومدى ما تخبئ للشعوب في المستقبل.
ما حصل في العراق من قبل الإمبراطورية الأميركية سبة في جبين هذه الدولة إلى يوم القيامة. حتى استراليا لا تنجو من هذه اللعنة، وأيضاً تلك الدول المتحمسة للمشاركة في تلويث أيديها بدماء العراقيين بهدف أن ترفرف في ميادينها أعلام ماكدونالد. لقد شاركت بعض هذه الدول بعنصر واحد، وأخرى بعثت بعشرة من رجالها لتفكيك الألغام وإعلان الولاء للراعي الأميركي. والغريب أن دول أوروبا الشرقية، التي كانت أكثر صداقة للعرب، بذلت كل جهدها للتكفير عن هذه الصداقة، ومحاولة إلغاء الذاكرة. كل ذلك لإرضاء أميركا وكسب رضاها، ومحاولة الانتقال إلى الجنة الموعودة!
حين دخلت نائبة مدير المتحف ورأت الدمار الذي حل بالآثار، قالت وهي تنتحب إن المجرم الحقيقي في ما حصل ليس هؤلاء الرعاع وإنما الأميركيون.
ولنا الآن أن نتصور كيف سيكون العصر الأميركي الجديد، وكيف سيتصرف رعاة البقر إذا لم تتحد البشرية كلها لمواجهة هذا الطوفان من الهمجية ووضع حد للبربرية الجديدة!
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

تحذيرات من فرض وقائع تهويدية جديدة داخل المسجد الأقصى
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام حذر مراقبون ومختصون في شؤون القدس المحتلة من تدهور الأوضاع في المسجد الأقصى المبارك، جراء مخططات واقتحامات...

هآرتس: تمويل مشاريع استيطانية بالضفة تحت غطاء الزراعة والري
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية، أن الصندوق القومي اليهودي، يقوم بتمويل مشروع استيطاني يستهدف الشبان...

وقفة بغزة تضامنًا مع الأسير كايد الفسفوس المضرب عن الطعام منذ شهرين
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام شارك عشرات المواطنين في غزة، بوقفة تضامنية دعمًا للأسير كايد الفسفوس المضرب عن الطعام داخل سجون الاحتلال منذ شهرين،...

أجهزة السلطة تمدد اعتقال المهندس يزن جبر 15 يومًا
نابلس – المركز الفلسطيني للإعلاممددت أجهزة السلطة، اليوم الأحد، اعتقال المهندس يزن جبر رئيس فرع نقابة المهندسين في نابلس 15 يوما. واعتقل جهاز...

حماس: افتتاح نفق أسفل الأقصى جريمة لن تفلح في تغيير هوية القدس
غزة - المركز الفلسطيني للإعلامقالت حركة حماس، مساء اليوم الأحد، إن افتتاح سلطات الاحتلال لنفق أسفل المسجد الأقصى المبارك والترويج للهيكل المزعوم،...

1463 أسيراً إدارياً في سجون الاحتلال حتى نهاية سبتمبر المنصرم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلامارتفع عدد المعتقلين الإداريين في سجون الاحتلال الصهيوني إلى 1463 معتقلاً، من بينهم 20 طفلاً و 4 أسيرات، خلال شهر...

18 اقتحاماَ لـ”الأقصى” و60 منعاً للأذان بـ”الإبراهيمي” في سبتمبر المنصرم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلاماقتحمت قوات الاحتلال الصهيوني والمستوطنون المسجد الأقصى المبارك بمدينة القدس 18 مرة، فيما منعت رفع الأذان 60...