الإثنين 02/أكتوبر/2023

إلى القدس مروراً ببغداد!

إلى القدس مروراً ببغداد!

من مفارقات الأقدار وسخرياتها أن بغداد رفعت في حربها ضد إيران شعار «الطريق إلى القدس يمر بطهران» ثم دارت دورة الزمن وإذا بنا نفاجأ بـ”إسرائيل” وقد رفعت شعار «الطريق إلى القدس يمر ببغداد» وأخشى ما أخشاه أن يكون الفرق بين الحالتين بحجم المسافة بين الهزل والجد.

(1)

لقد استأثرت مقاصد واشنطن من الحملة العسكرية الراهنة بمعظم الاهتمام، وذلك حقها لا ريب، لأن مختلف الشواهد تدل على أن ما يجري في العراق الآن من الجسامة وعمق التأثير، بحيث يشكل منعطفاً مهماً في تاريخ العالم، وليس العراق وحده، وليس منطقة الشرق الأوسط وحدها، إن شئت فقل إنه باب للقرن الأمريكي على الأرجح، غير أن الدور الإسرائيلي في الحملة، في كل مراحلها، وضع خطاً تحت كلمة «كل» التي تشمل التفكير والتخطيط والتنفيذ، هذا الدور لم ينل ما يستحقه من اهتمام، رغم أن المآلات المرجوة منه تمسنا جميعاً وتتقاطع مع مصالح وأمن الأمة العربية، أو ما يتبقى منها بعد الحملة، ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن تلك المآلات يراد لها أن ترشح منطقتنا أيضاً للدخول فيما يمكن أن نسميه بالعصر الإسرائيلي.

نعم يلاحظ الجميع أن قادة “إسرائيل” انتهزوا فرصة تعلق الأبصار والأفئدة بما يجري في العراق، ومضوا يسفحون الدم الفلسطيني ويبطشون ويفترسون ويهدمون ويتوسعون، غير مبالين بشيء، لكن ذلك كله على بشاعته يبدو نوعاً من التمهيد لما هو آت، حتى أزعم بأنها من قبيل الدقات التي تسبق إزاحة الستار عن العصر الجديد، الذين يهيئون أنفسهم له.

ربما يبدو مبكراً الآن الحديث عن «جوائز» ما بعد الحملة على العراق، وسيناريوهات ما بعد احتلاله، خصوصاً وأن الحريق لا يزال مستمراً، ولا أحد يعلم بالضبط متى ولا كيف سينتهي، ولكن ثمة جدلاً في الولايات المتحدة لا يمكن تجاهله حول دور “إسرائيل” في إذكاء الحرب، وثمة معلومات جديرة بالرصد عن تنسيق أمريكي – إسرائيلي في العمليات العسكرية، وثمة إشارات مهمة تنشرها الصحافة الإسرائيلية ترسم بعضاً من قسمات المستقبل وخرائطه، التي من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية تتوق لها وتنتظرها بفارغ الصبر، ولأن هذا الطنين يمسنا ويخصنا، فيتعين علينا أن ندقق في عناوينه ومفرداته، ببساطة لأن ذلك قد يكون بمثابة قراءة أولية لبعض صفحات المستقبل المخبوء.

لقد استخدم الملف الفلسطيني كمسكن أو كمخدر أريد لنا أن نبتلعه، لكي يساعدنا على استقبال الجريمة الأمريكية بحق العراق وتمريرها بدون ألم، ووجدنا الرئيس بوش وقد خرج علينا فجأة وسط هدير آلات الحرب على العراق، لكي يبشرنا بأنه لا يزال عند وعده بخصوص «خريطة الطريق»، وأمله في إقامة الدولة الفلسطينية في عام 2005 ، إذا ما التزم الفلسطينيون حدود «الامتثال والأدب»، وكفوا عن مقاومة الاحتلال، وعرفنا من الصحافة الأمريكية أن ذلك الخطاب المفاجئ روجع إسرائيلياً فقرة فقرة، وأن الإسرائيليين طلبوا أن تحذف منه كل إشارة إلى أن الدولة الفلسطينية الموعودة ستكون «مستقلة»، وهو ما قبل به الرئيس الأمريكي، وباع لنا القرص المخدر مغشوشاً!

 

(2)

 

تذكر مؤلفة كتاب «النبوءة والسياسة» الذي سلط الضوء على العلاقة الوثيقة بين الأصوليين الإنجيليين في الولايات المتحدة وبين “إسرائيل”، أن سيدة بروتستانتية اشترت منزلاً في واشنطن بمبلغ نصف مليون دولار، واختارت له أن يكون مقابلا للسفارة الإسرائيلية، وإلى هذا المنزل يتوجه عديد من الإنجيليين – بعضهم من ذوي المناصب الرفيعة في الحكومة الأمريكية – للصلاة من أجل “إسرائيل” على مدار الساعة، وهم في صلواتهم يتوجهون بأبصارهم وقبلتهم ناحية السفارة الإسرائيلية على الرصيف المقابل من الشارع، ويدعون الرب لأن يحفظ “إسرائيل” وينصرها، وأن يقرب اليوم الذي يختفي فيه كل أثر للفلسطينيين فوق «أرض الميعاد»!

وأضافت المؤلفة الأمريكية (جريس هالسل) أنها حين راجعت أسماء المسؤولين الأمريكيين في سجل زيارات المنزل، فوجئت بأن الرئيس (رونالد ريجان) على رأسهم!

كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي «الكتاب ترجمة الأستاذ محمد السماك إلى العربية في عام 89»، ورغم أنه لم تحدث متابعة بعد ذلك لأسماء المسؤولين الأمريكيين الذين يشاركون في تلك الصلاة، إلا أنني لا أشك في أن القائمة تضخمت بمضي الوقت، وأن أسماء أهم المسؤولين في الإدارة الأمريكية الحالية تحتل المقدمة منها، وفى مقدمة المقدمة الرئيس جورج دبليو بوش شخصياً!

ليس في ذلك الاستنتاج مبالغة أو مغامرة، ذلك أن عدد 11 مارس الحالي من مجلة «نيوزويك» يسلحنا بقدر واف من المعلومات، التي تشجعنا على تبني ذلك الاستنتاج باطمئنان شديد، إذ بعد أن نشرت المجلة صورة للرئيس الأمريكي وهو في حالة تبتل واستغراق في الصلاة، وبعد أن وضعت على صورته عنواناً كبيراً من كلمتين هو : بوش والرب. بعد هذا الإخراج فإن المجلة تضمنت تقريراً مطولاً «في 8 صفحات»، اشترك في إعداده خمسة من المحررين، وصف الإدارة الحالية بأنها «الأشد رسوخاً في الإيمان في العصور الحديثة».

رصد التقرير رحلة جورج بوش الابن من التطرف في التحلل من الدين، إلى التطرف في الإيمان البروتستانتي، وهى المرحلة التي لعب فيها القس الإنجيلي الشهير (بيللي جراهام) دوراً أساسياً، الأمر الذي اعتبره بوش أعظم تغير في حياته، وللعلم فإن القس جراهام هو أحد أعمدة الحركة المسيحية الصهيونية، التي تشكل أقوى واخطر سند لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة، وتروج لمقولة أن محاربة “إسرائيل” هي إعلان للحرب على الرب.

شئ طيب أن ينتقل جورج بوش الابن من عالم الرذيلة والعربدة إلى حظيرة الإيمان، ولا غضاضة في أن يلجأ إلى القساوسة لينال بركتهم قبل أن يتخذ قراراته المهمة، وإذا كان قد اعتبر نفسه «مبشراً»، وأبلغ من حوله قبل ترشيحه للرئاسة أنه «تمت دعوته لكي يتبوأ منصباً رفيعاً»، فهذا شأنه وقناعاته هو حر فيها، لكن المشكلة، بل والخطير في الأمر أنه دخل إلى حظيرة الإيمان من الباب الغلط، وأن تحوله أوقعه في براثن فريق يتقرب إلى الله بنصرة “إسرائيل” ومساندة المشروع الصهيوني بكل السبل، حتى قال تقرير نيوزويك «إن معتقداته الدينية أعمته عن رؤية العالم المحيط به أو قراءة أحداثه بصورة متوازنة».

 

(3)

 

في دراسة مهمة حول الأصولية البروتستانتية وتأثيراتها على السياسة الأمريكية، للباحث سمير مرقس، تأصيل للعلاقة التاريخية الوثيقة بين البروتستانتية والصهيونية، تسلط ضوءاً قوياً يفسر لنا الكثير من مواقف الرئيس الأمريكي والفريق المحيط به، الذي يتوزع أغلب أعضائه فيما بين الأصولية الإنجيلية والانتماء اليهودي الصهيوني، ذلك أنه من المهم مثلاً أن نعرف أن الكنيسة الإنجيلية احتضنت الفكرة الصهيونية قبل هرتزل بقرون، وأن الفكرة كانت أنشودة مسيحية قبل أن تصبح حركة سياسية يهودية، كما قال «كينين» أحد أبرز القيادات الصهيونية الأمريكية، في كتابه «خط الدفاع الإسرائيلي»، مهم أيضاً أن نعرف أن الدعوة إلى توطين اليهود في فلسطين واعتبارها أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض، كانت ضمن مشروع قدمه اللورد بالمرستون وزير خارجية بريطانيا الأسبق- إلى مؤتمر عقد في لندن عام 1840 – وكان بالمرستون أحد الذين يعتقدون أن عودة اليهود إلى فلسطين شرط لتحقيق المجيء الثاني للمسيح، وأن مساعدة اليهود لتحقيق تلك الغاية أمر يريده الله، لأنه يعجل بمجيء المسيح الذي يحمل معه الخلاص والسلام، وهو تصور استخلصه البروتستانت اعتماداً على بعض التفسيرات الحرفية لسفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، وبمقتضاه اعتقدوا أن النصارى المخلصين سوف يعيشون مع المسيح في فلسطين- بعد مجيئه- لمدة ألف سنة، في رغد وسعادة، قبل حلول يوم القيامة.

مهم كذلك أن نعرف أن المهاجرين الأوائل إلى الولايات المتحدة كانت بينهم أعداد كبيرة من أولئك البروتستانت الذين عرفوا باسم المتطهرين أو «البيوريتانيين» الذين حملوا معهم التقاليد والقناعات التوراتية، وتفسيرات العهد القديم التي انتشرت في إنجلترا وأوروبا قبل ذلك، في هذا الصدد يرصد كثير من المؤرخين كيف أعطى المهاجرون الأوائل أبناءهم أسماء عبرانية «ابراهام، سارة، العازر..» كما أطلقوا على مستوطناتهم أسماء عبرانية «حبرون، وكنعان..» وفرضوا تعليم اللغة العبرية في مدارسهم وجامعاتهم، حتى إن أول دكتوراه منحتها جامعة هارفارد في العام 1642 م كانت بعنوان «العبرانية هي اللغة الأم» وأول كتاب صدر في أمريكا كان «سفر المزامير»، وأول مجلة كانت «اليهودي»، يضاف إلى ما سبق أنه سمح لليهود ببناء محافلهم الدينية في وقت مبكر إثر هجرتهم إلى العالم الجديد الأمريكي، وتم لهم ذلك قبل أن يسمح البروتستانت البيوريتانيون المسيطرون على معظم المستوطنات الجديدة لطائفة الكاثوليك ببناء كنائسها، وقد أسموا أنفسهم «أطفال إسرائيل»” children of Israel” في طريقهم إلى الأرض الموعودة، واحتفلوا بيوم السبت كيوم راحة لهم.

 

(4)

 

تنسب إلى (هنري كيسنجر) وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مقولة أن الطريق إلى القدس يمر ببغداد، التي عبرت عن تصور أن “إسرائيل” لن يهدأ لها بال ولن تستقر في مدينة القدس التي يعتبرها الحلم الصهيوني عاصمة لأرض الميعاد، إلا إذا انكسرت بغداد بما تمثله من رمز وقوة للعرب، وربما كان الدافع إلى ذلك هو اقتناع كيسنجر ومن لف لفه بأن القوة العراقية تؤرق “إسرائيل”، خصوصاً بما استصحبته من تطلعات نووية أو تمكن من الأسلحة غير التقليدية الأخرى، وفى رأي (باتريك سيل) الكاتب البريطاني المختص بالشرق الأوسط أن موقع العراق كمهدد إستراتيجيي لإسرائيل استقر وأصبح أمراً مسلماً به منذ جرؤت القيادة العراقية وهاجمت “إسرائيل” في عام 1991 م، أثناء حرب تحرير الكويت، لذا أصبح أحد الأهداف الرئيسية للسياسة الإسرائيلية ولمؤيديها و«رجالها» في واشنطن أن تضرب العراق بحيث يجرى إضعافها إلى الأبد، وأن ينزع سلاحها بحيث يتم تغيير الأفق الإستراتيجي للمنطقة، وتظل حيازة أسلحة الدمار الشامل حكراً على “إسرائيل”، ومن ثم يتم إضعاف النظام العربي وهزيمة الفلسطينيين، عبر فرض الشروط الإسرائيلية عليهم.

وأضاف (باتريك سيل) في شهادته أن الرئيس بوش ابتلع حزمة الأكاذيب التي عرضت عليه في إطار ملف الحرب «ساعدته على ذلك معتقداته الدينية»، وهي الأكاذيب التي صاغتها عصب

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات