ذوبان مشروع اليسار الإسرائيلي

حسين عبدالعزيز*
مفهوم اليسار واليمين مفهومان اعتباريان خاضعان للصيرورة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفرز في كل مرحلة تاريخية فئات جديدة تتحدد مواقفها من الصراع الاجتماعي ورؤيتها لما يجب أن يكون عليه الواقع. وهما لذلك لا يشيران إلى فئات وطبقات اجتماعية ثابتة، أو إلى مواقف أيديولوجية دائمة. إنهما يشيران إلى معان كثيرة تختلف باختلاف السياقات والبلدان.
ومع ذلك يمكن القول إن مفهوم اليسار دل تاريخياً على تلك الفئات الراغبة في تغيير الواقع القائم لصالح منظومة أكثر تطوراً في نظرها، مقابل اليمين الذي يسعى إلى الحفاظ على هذا الوضع. وهذا يعني أن مصطلحي اليسار واليمين يتحددان أكثر من خلال الموقف المضاد لكل منهما، فلا يمكن إطلاق صفة اليسار على بعض الفئات إذا لم تكن هناك مواقف يمينية تمثلها فئات أخرى، والعكس صحيح، أي لا يمكن فهم اليمين إلا من خلال اليسار. إنهما مصطلحان متكاملان يحدد الواحد منهما الآخر.
تعود أزمة اليسار العالمي إلى مرحلة نشوء النظام الرأسمالي وما رافقها من تغيرات في البنى الطبقية لصالح الطبقة الوسطى التي تصالحت بسرعة مع النظام الرأسمالي. لكن أزمة اليسار تجد أكثر تعبيراتها وضوحاً وشمولاً مع انهيار المنظومة الاشتراكية وظهور ثورة المعلوماتية والاتصال وما أفرزته من واقع اقتصادي واجتماعي جديد بعد اكتمال عملية توحيد السوق العالمي للقوانين الرأسمالية (العولمة هي الرأسمالية في إحدى تعيناتها التاريخية).
ومنذ ذلك التاريخ، يشهد الفكر السياسي العالمي انزياحاً نحو اليمين، فالاشتراكية تحولت نحو المحافظة حين قبلت ما كانت ترفضه سابقاً (دولة الرفاه الاجتماعي) والمحافظة أصبحت يمينية حين قبلت أيضاً ما كانت ترفضه سابقاً (الرأسمالية التنافسية)، واليمين التقليدي تحول إلى يمين راديكالي (الليبرالية الجديدة) بعد الانقلاب التاريخي على دولة الرفاه الكنزية.
هذه التحولات جعلت من المعايير السياسية والاجتماعية التي تستخدم عادة لتحديد اليسار بالية، بما فيها الأدوات التي اعتمد عليها اليسار تاريخياً لتشجيع النمو والمساواة، كبرامج السياسات الاجتماعية وتحفيز الاقتصاد الكلي.
في “إسرائيل” يختلف الوضع، فعلى رغم أن هذه التحولات لعبت دوراً مهما في ترسيخ اتجاهات ليبرالية في الحياة الاقتصادية الإسرائيلية، إلا أنه لم يكن لها ذات التأثير الذي أحدثته في القارة الأوروبية. ف”إسرائيل” تفتقر لتلك البنى الاجتماعية – الاقتصادية التقليدية التي ميزت التاريخ الأوروبي (الإقطاع، النبالة) لكونها دولة حديثة لم تقم من رحم تحولات اجتماعية – سياسية – اقتصادية، بل قامت كدولة استعمارية استيطانية، شكلت الأرض العنصر الرئيسي في عملية البناء الاقتصادي، ولهذا كان اقتصادها قائماً على الاقتصاد الزراعي – الاستيطاني.
بدأت أزمة اليسار الإسرائيلي سياسياً عام 1977 حين صعد اليمين لأول مرة إلى سدة الحكم، مع أن البعض قد يرجع أزمة اليسار إلى ما قبل ذلك وتحديداً إلى منتصف الستينات حين انشق بن غوريون عن «الماباي» ليؤسس حزباً جديداً سماه «رافي»، إلا أن هذا الانشقاق لا يجب النظر إليه على أنه انعطافة أيديولوجية متأخرة في الحركة العمالية الصهيونية، أو تحول في القواعد الحزبية بقدر ما هو تعبير عن صراع الأجيال بين القديم (ماباي، مابام) والجيل الجديد (أحدوت هاعفودا).
ومع ذلك فإن هذا الاتجاه الأخير قارب الصواب على الأقل من الناحية التاريخية الزمنية، فجذور أزمة اليسار تعود إلى منتصف الستينات وتحديداً بعد حرب الـ67.
فبعد هذا التاريخ بدأ الاقتصاد الإسرائيلي بالاندماج رويداً رويداً في الاقتصاد العالمي، وكان لا بد من تجاوز الاقتصاد القائم على الاستيطان، أولاً عبر عمليات الخصخصة وتوسيع وفتح باب الاقتصاد الإسرائيلي على مصراعيه لتوطيد بنى صناعية وتجارية لها علاقة مباشرة باقتصاد السوق الرأسمالي.
ومع ارتفاع مستوى المعيشة وتوسع الطبقة الوسطى بدأ حزب العمل يميل إلى التمايز عن الدولة، فلم يعد الممثل الوحيد للقواعد الاجتماعية والاقتصادية، وكان من نتيجة فك الارتباط الاقتصادي بين حزب العمل والدولة هزيمة اليسار سياسياً عام 1977 كما يقول عزمي بشارة.
واستمرت عملية تقليص دور الدولة ونقابات العمال (الهستدروت) في الاقتصاد، الأمر الذي أدى إلى نشوء فئات سياسية تجمع بين اليمين الاجتماعي الاقتصادي والسياسي إلى جانب فئات سياسية تؤيد توسيع اقتصاد السوق.
لقد أدى تغير قوى ووسائل الإنتاج نتيجة تغير نمط الإنتاج، من النمط الزراعي إلى النمط الصناعي، إلى تغير في النخب السياسية لصالح تلك الفئات الجديدة المرتبطة صناعياً وتجارياً باقتصاد السوق العالمي، وما هذا التبدل إلا دلالة قوية على القانون الماركسي الذي لا يعتبر التاريخ إلا نتيجة لعملية ديالكتيكية بين القوى الاقتصادية (البنية التحتية) والنظام الاجتماعي السياسي (البنية الفوقية)، أي أن نمط الإنتاج يحدد في النهاية بنية العلاقات السياسية الفوقية.
أدت هذه التغيرات الاقتصادية إلى تقارب كبير بين اليمين واليسار لا سيما عند الحزبين الكبيرين العمل والليكود الذين أصبحا يتقاسمان التمثيل السياسي للطبقة الوسطى الكبيرة. فالتلاقي الحاصل في المبنى التحتي أدى إلى تلاق من نوع آخر في المبنى الفوقي، ولم يعد عندها الاقتصاد يدخل في دائرة التحديد الجوهري لماهية اليسار واليمين.
ومع بدء عقد التسعينات من القرن المنصرم ظهرت مرحلة سياسية جديدة نتيجة دخول “إسرائيل” العملية السلمية مع العرب، بحيث أصبح من الصعب بعد مدريد تحديد الألوان السياسية والحزبية، فالأجندة الأيديولوجية لمفهوم أرض ودولة “إسرائيل” ومن ثم الدولة الفلسطينية المقبلة تراجعت عما سبق، وبدأ هذا التغيير في تفكير اليمين الصهيوني الذي كان يرفض فكرة الدولة الفلسطينية ثم قبل بها على أساس كيان سياسي ثم دولة منقوصة، ثم دولة متقطعة منزوعة السيادة. والحقيقة أن موقف اليسار يتماهى مع موقف اليمين حيال هذه القضايا باستثناء بعض النقاط التي ليست لها أي أهمية سياسية أو جغرافية. فكلا الطرفين يؤكد أنه لا يوجد حل للقضية الفلسطينية وفق ما يطرحه الفلسطينيون والعرب، وأن الحل الوحيد هو الحل الدائم وفق الرؤية الإسرائيلية التي تؤكد ضرورة الانفصال عن الفلسطينيين لحل المسألة الديموغرافية وحفاظ “إسرائيل” بالتالي على هويتها وديموقراطيتها في آن واحد، وكلاهما متفق على الأراضي التي يجب على “إسرائيل” الإبقاء عليها تحت سيادتها.
إن هذه العوامل السياسية والاقتصادية، تضاف إليها هشاشة الانتماءات السياسية من جهة، وتقاسم اليسار واليمين التقليدي للوسط السياسي من جهة ثانية، سهلت عملية الانتقال بينهما، ويكفي أن يقوم بهذه المهمة حزب وسط كما هو الحال مع «شينوي» في الانتخابات الأخيرة الذي قام بعملية الفرز بين العمل والليكود نتج عنها «كديما» كتركيب جدلي للموضوع ونقيضه، وما كان لهذه العملية أن تتم لولا غياب مشروعين سياسيين أو اقتصاديين متمايزين لليسار واليمين، فهناك مشروع واحد، وما الاختلافات البسيطة بين الطرفين إلا تعبير عن موقع كل طرف في التشكيلة السياسية، أحدهما سلطة والآخر معارضة. وعندما يتم تبادل الأدوار السياسية يتم تبني ذات المواقف لدى كلا الطرفين، الأمر الذي يعني أن ثمة حزب سلطة وحزب معارضة لا أقل ولا أكثر.
إن التعبير العملي لهذا التماهي بين اليسار واليمين نجده في التشكيلات الحكومية التي تجمع العمل والليكود معاً، فقد دعم حزب العمل حكومة شارون الأولى، وكان ممثل العمل آنذاك بنيامين بن اليعازر وزير الدفاع الذي أوكلت إليه مهمة تصفية الانتفاضة الفلسطينية الثانية وسياسة القتل المستهدف للقادة الفلسطينيين.
وفي حكومة أولمرت الحالية تسلم عمير بيرتس حقيبة الدفاع، وهو الذي وصل إلى رئاسة العمل بسبب أجندته الاجتماعية، لكن قبوله وزارة الدفاع أكد غياب المشروع السياسي والاقتصادي لحزب العمل، بل يمكن القول أكثر من ذلك، ففي أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان جاءت الأصوات الأكثر راديكالية المؤيدة للحرب من معاقل اليسار وتحديداً من حزب العمل و«ميرتس»، أما رفض حركة «ميرتس» للحرب البرية على لبنان، فليس ناجماً عن انعطافة أيديولوجية، وإنما نتيجة الأخبار السيئة الواردة من الجنوب اللبناني عن حالة جنودهم.
لقد أدى اتفاق اليسار واليمين على لاءات بوش الثلاثة وعلى السياسة الاقتصادية للدولة والموقف من الأحزاب الدينية ومن يهودية الدولة وتوجهها الديموقراطي ووضع عرب الداخل والسلام مع سورية، كل ذلك أدى إلى اختزال مفهوم اليسار واليمين من قيمة أيديولوجية إلى قيمة حزبية ضيقة تخضع للابتزازات الداخلية التي تحكمها في نهاية المطاف اعتبارات السلطة وحدها.
* كاتب وإعلامي سوري
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

تحذيرات من فرض وقائع تهويدية جديدة داخل المسجد الأقصى
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام حذر مراقبون ومختصون في شؤون القدس المحتلة من تدهور الأوضاع في المسجد الأقصى المبارك، جراء مخططات واقتحامات...

هآرتس: تمويل مشاريع استيطانية بالضفة تحت غطاء الزراعة والري
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية، أن الصندوق القومي اليهودي، يقوم بتمويل مشروع استيطاني يستهدف الشبان...

وقفة بغزة تضامنًا مع الأسير كايد الفسفوس المضرب عن الطعام منذ شهرين
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام شارك عشرات المواطنين في غزة، بوقفة تضامنية دعمًا للأسير كايد الفسفوس المضرب عن الطعام داخل سجون الاحتلال منذ شهرين،...

أجهزة السلطة تمدد اعتقال المهندس يزن جبر 15 يومًا
نابلس – المركز الفلسطيني للإعلاممددت أجهزة السلطة، اليوم الأحد، اعتقال المهندس يزن جبر رئيس فرع نقابة المهندسين في نابلس 15 يوما. واعتقل جهاز...

حماس: افتتاح نفق أسفل الأقصى جريمة لن تفلح في تغيير هوية القدس
غزة - المركز الفلسطيني للإعلامقالت حركة حماس، مساء اليوم الأحد، إن افتتاح سلطات الاحتلال لنفق أسفل المسجد الأقصى المبارك والترويج للهيكل المزعوم،...

1463 أسيراً إدارياً في سجون الاحتلال حتى نهاية سبتمبر المنصرم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلامارتفع عدد المعتقلين الإداريين في سجون الاحتلال الصهيوني إلى 1463 معتقلاً، من بينهم 20 طفلاً و 4 أسيرات، خلال شهر...

18 اقتحاماَ لـ”الأقصى” و60 منعاً للأذان بـ”الإبراهيمي” في سبتمبر المنصرم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلاماقتحمت قوات الاحتلال الصهيوني والمستوطنون المسجد الأقصى المبارك بمدينة القدس 18 مرة، فيما منعت رفع الأذان 60...