الجمعة 19/أبريل/2024

من هيردوس روما إلى باراك واشنطن .. أزمة إسرائيل تنبع من داخلها وهي ليست مهيأة

من هيردوس روما إلى باراك واشنطن .. أزمة إسرائيل تنبع من داخلها وهي ليست مهيأة

إن ما يسمى “مسار السلام” (المصطلح الأمريكي الأصل) جاء في سياق مبادرة أمريكية للتسوية طرحت في مؤتمر مدريد، ولم تكن الأطراف المحلية، كما هو واضح مهيأة لها، ولو كان الأمر كذلك لبادرت بذاتها إلى عقد المؤتمر وكفت واشنطن عناء المكابدة. لكن المبادرة كانت أمريكية واستجابت لها الأطراف المحلية بشكل أو بآخر، فمنها من تجاوب بحماس ومنها من فعل ذلك مرغماً، منها من ذهب إلى مدريد على مضض. وكان واضحاً في حينه أنه عند الجمع بين مواقف هذه الأطراف في وحدة تفاوضية لا تتشكل أرضية صلبة للتقدم في عملية التسوية. وكانت الولايات المتحدة هي الأكثر تهيئة لهذه العملية، وذلك بعد حرب الخليج الثانية وما ترتب عليها من نتائج، والتي رأت فيها واشنطن أرضية مناسبة لطرح مبادرتها، التي تخدم مصالحها قبل كل شيء آخر، علماً بأنها كانت تعرقلها على مدى عقود طويلة .

في الواقع، فهذا الموقف الأمريكي المناهض لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي لا يعود إلى سنة 1948 فحسب، وإنما يرجع إلى الحرب العالمية الأولى حيث تبدى في موقف الرئيس ودرو ولسن في “مؤتمر السلام” العام 1919، ومن بعثة “كنغ كرين” التي كان هو نفسه صاحب المبادرة إليها .

وظل الموقف الأمريكي من هذا الموضوع ثابتاً، وبالتالي معرقلاً لجميع مشاريع التسوية التي طرحت خلال القرن، ما دامت واشنطن تعتقد أن مصالحها لم تؤمن بعد، وإن إسرائيل ليست مهيأة ذاتياً للتسوية بعد ولعل عداءها للتسوية تعاظم بعد حرب 1967، حيث لم يتمخض النصر العسكري الإسرائيلي الذي عملت له واشنطن بكل قواها عن نتائج سياسية موازية، الأمر الذي يتجلى في مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذئذ باستثناء إدارة كارتر (1976-1980) .

لكن حرب الخليج الثانية أحدثت تغييرات هامة في مواقف الأطراف المعنية جميعاً ومنها مواقف منظمة التحرير الفلسطينية، ما حمل واشنطن على التعامل معها كطرف في مفاوضات التسوية، على الرغم من معارضة حكومة إسرائيل في حينه لذلك. ومعلوم أن حكومة رابين الأولى (1970-1976) كانت تلقت من إدارة فورد وعداً بعدم التعامل مع م.ت.ف كطرف في المعادلة السياسية الإقليمية، الأمر الذي تشبثت به حكومة شامير أثناء الإعداد لعقد مؤتمر مدريد، وكذلك حكومة خلفه رابين، إلى أن تم التوصل إلى اتفاق أوسلو العام 1993. وإذ واجهت أطراف مؤتمر مدريد جميعاً إشكاليات في المفاوضات، وترددت في الإقدام على إنجاز اتفاق بالشروط المتاحة، فإن العقبة الأساسية في طريق التسوية كانت إسرائيل. والمسألة هنا ليست ذاتية تتعلق بهذه الحكومة أو تلك فحسب، وإنما لها أسبابها الموضوعية أيضاً فإسرائيل ليست مهيأة للتسوية التي تتصورها الأطراف الأخرى بما فيها الولايات المتحدة، ذلك لأن وضعها الذاتي لم يتضح بعد لاتخاذ القرار اللازم في هذا السياق، وبالتالي فهو يشكل عقبة موضوعية في طريق التسوية .

في فترة حكومة رابين – بيريز (1992-1996)، أنجز اتفاق أوسلو ومن ثم المعاهدة الأردنية الإسرائيلية في 1994، ولكن تلك الحكومة لم تجرؤ لفترة طويلة على الاقتراب من تسوية على المسار السوري – اللبناني المشترك. لم تكن تلك الحكومة تملك التفويض السياسي ولا تحظى بالدعم الكافي في الكنيست، للاستجابة للشروط السورية – اللبنانية في مفاوضات التسوية. وفي نهاية المطاف كان الحد الأقصى الذي وصل إليه رابين على هذا المسار تحت ضغط أمريكي يقضي بالانسحاب الكامل من الجنوب اللبناني، وبمعادلة “عمق الانسحاب كعمق السلام” في الجولان. وهذا يعني ضمناً أنه في حال سلام شامل مع سورية ستنسحب إسرائيل بالكامل من الجولان ضمن ترتيبات أمنية لم يتم الاتفاق عليها، وبالتوازي مع تطبيع العلاقات السورية – الإسرائيلية، الأمر الذي ظل يكتنفه الغموض، وقتل رابين في 1995 على خلفية تنفيذ اتفاق أوسلو، على يد متطرف صهيوني ينتمي إلى جماعة دينية يمينية، انطلاقاً من التشبث بمفهوم “أرض إسرائيل الكاملة”، أي مقاومة الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، على قاعدة المبدأ القائل بوحدة الأرض الواقعة غربي نهر الأردن، وانسجاماً مع القانون الإسرائيلي بضم الجولان العام 1981. وفي ولايته القصيرة خلفاً لرابين كان بيريز مستعجلاً للتوصل إلى “إعلان مبادئ” للتسوية مع سورية، يكون بمثابة ركن أساسي في برنامجه الانتخابي. ولكن ذلك لم يحصل، فقدم موعد الانتخابات في العام 1996، وفي ذروتها، أقدم على عملية عناقيد الغضب التي أسهمت بدورها في خسارته أمام مرشح الليكود نتنياهو .

وانسجاماً مع أيديولوجية “اليمين” الصهيوني المتطرف، جمد نتنياهو خلال سنوات حكمه الثلاث بين 1996 و 1999 مسارات التسوية، علماً بأنه أعلن التزامه باتفاق أوسلو، لكنه ظل يعمل على عرقلة تنفيذه ذلك لأن نتنياهو ظل متمسكاً ببرنامج الليكود القائم على الشق الفلسطيني من “اتفاقات كامب ديفيد” أي منح الفلسطينيين “حكماً ذاتياً إدارياً” فحسب، في إطار “حل نهائي” للبعد الفلسطيني من الصراع العربي – الإسرائيلي. ولم يكن نتنياهو يفكر جدياً في الانسحاب من الجولان أو حتى من جنوب لبنان ناهيك عن أنه لم يكن يملك تفويضاً لذلك من حزبه، أو من حكومته الائتلافية. وقد حاول الفصل بين المسارين السوري واللبناني، لكنه فشل كما عمد إلى المناورة المضللة في الاتصالات غير المباشرة مع سورية ومهما يكن فإنه سقط في النهاية من الحكم، أسوة بسلفه شامير، على خلفية اتفاق “واي بلانتيشين” الذي وقع قسراً ولم يكن ينوي تنفيذه. لقد مرره في الكنيست بدعم المعارضة (حزب العمل)، وعندما سحبت هذه شبكة الآمان التي أعطته إياها، وتخلت عن دعمه، سقط نتنياهو بفعل الأحزاب المشاركة في حكومته، التي اضطرته إلى تقديم موعد الانتخابات العامة، فخسرها في مواجهة باراك. وإزاء الضغط الأمريكي عليه، هرب نتنياهو إلى الأمام، مما أدى إلى توتير علاقة حكومته مع إدارة كلينتون، وفي أيامه الأخيرة في السلطة عمد إلى حركة مناورة فراح يغازل موسكو الأمر الذي انعكس سلباً عليه وأفسح المجال أمام باراك ليتغلب عليه في الانتخابات .

وتجدر هنا الإشارة إلى التشابه في المسارين الذين أديا إلى سقوط كل من شامير في 1992 ونتنياهو في 1999، أمام كل من رابين وباراك على الترتيب، حيث كان العامل الأقوى في ذلك هو الدور الأمريكي الدافع لعملية الدور الأمريكي الدافع لتسوية، في مواجهة محاولات العرقلة التي مارسها اليمين الصهيوني (ليكود)، والأمر ذو دلالة واضحة. فقد خرج شامير ونتنياهو بالاستناد إلى بؤر اقتصادية – سياسية على الساحة الأمريكية على النهج التقليدي في العلاقة الأمريكية – الإسرائيلية، المرتكز إلى التنسيق المسبق في الحركة السياسية على الأقل في القضايا ذات البعد الاستراتيجي .

وكان هذا التنسيق قائماً منذ ما قبل قيام إسرائيل لكنه تكرس رسمياً في مرحلة الإعداد لحرب 1967، ذلك خلال زيارة أفريل هاريمان العام 1964 مبعوث الرئيس جونسون الخاص، يرافقه رئيس “وكالة الاستخبارات المركزية”. وتقرر في حينه ألا تعود القيادة الإسرائيلية إلى الخطيئة التي ارتكبتها في حرب السويس العام 1956 بالتحالف مع فرنسا وبريطانيا من وراء ظهر واشنطن. وفي تلك الزيارة تم الاتفاق على تنسيق الخطوات نحو حرب 1967، والتزمت إسرائيل بذلك، فدعمتها واشنطن، وهيأت لها أسباب النصر في الحرب، ووفرت لها الغطاء السياسي على الساحة الدولية بعدها، كما وقفت وراءها في إحباط مشاريع التسوية التي أعقبت تلك الحرب. وفي الثمانينات، أثناء ولايتي ريغان (1980-1988)، تطورت هذه العلاقة إلى التعاون الإستراتيجي، الأمر الذي راح يتعرض للخلل منذ مؤتمر مدريد، بفعل سلوك كل من شامير ونتنياهو، فكان لا بد من إزاحتهما عن الحكم. وفي الواقع، فإن التنسيق المسبق بين إسرائيل وواشنطن كان أشد إحكاماً في الإعداد للحرب وإدارتها منه في السير على طريق التسوية. فقد وقفت الولايات المتحدة وراء إسرائيل بثبات في جميع حروبها، ولكن هذه الأخيرة لم تبادل الأولى الموقف بالمثل في مبادراتها التسووية المتعددة. وعلى العموم فقد تمحور الخلاف بينهما حول مردود الحروب التي شنتها إسرائيل بدعم أمريكي قوي على المستوطن. ذلك لأن هذا المستوطن لا يزال في قيد الإنشاء، ولم يستكمل بناءه الذاتي بعد، كما أنه لم يحدد إلى الآن حدوده السياسية، وظلت إسرائيل ترى أن المشاريع التسووية وحتى التي تبنتها واشنطن بصورة أو بأخرى لا تلبي أطماعها التوسعية في الأرض، ولا تضمن لها الموقع المتميز في العلاقة مع الولايات المتحدة، بما يترتب عليها من دعم سياسي ومالي وتسليحي، أو تؤمن لها قوة الردع الجيوستراتيجية في المنطقة. وإذ تحلحل هذا الموقف جزئياً في العقد الأخير، فإنه لم يتبدل جذرياً بواقع سلوك إسرائيل في مفاوضات التسوية الجارية، وردات فعل واشنطن عليه .

كعب باراك

تضافرت عدة عوامل لجعل وصول باراك إلى السلطة في إسرائيل بسرعة مذهلة ممكناً وهو إنجاز تفوق به على سلفه وقدوته رابين .

في نظرة فاحصة لسلوكه في الحكم وبالتالي لتوجهه في قيادة دفة الدولة، يبدو باراك وكأنه يرى في توطيد العلاقة الإستراتيجية مع واشنطن مفتاح الحل للمشاكل التي ورثها من سلفه نتنياهو وهي كثيرة فعلاً كما تفيد وسائط الإعلام الإسرائيلية ذاتها. فإنه قد ولي السلطة في دولة استيطانية مأزومة، وهي تمر بمرحلة حاسمة في صيرورة تطورها نحو استكمال  بنائها الذاتي، تحت ضغط مسار تسووي ليست مهيأة لدفع استحقاقاته. وهو بالتأكيد يعني تماماً عواقب الخروج عليه علماً بأن الولايات المتحدة هي التي تقوده، فإسرائيل تعاني أزمة هوية على قاعدة التوليفة الصهيونية في بناء المستوطن اليهودي والتي ثبت إفلاسها في صياغة القاسم المشترك الإيجابي الذي يستطيع الجمع بين الفئات المتنافرة التي وفدت على ذلك المستوطن في وحدة مجتمعية، تتمتع بالحد الأدنى من الانسجام الداخلي. فقد تمخضت “بوتقة الصهر” التي طالما تكلم عنها الآباء المؤسسون للعمل الصهيوني، عن “طبخة حصى”، لم تلبث هذه البوتقة أن تشققت حتى خرجت منها العناصر المختلفة كما دخلتها فئات متنافرة .

على سبيل المثال لا الحصر، يؤكد شلومو بن عامي الوزير الأكاديمي في حكومة باراك: ((في إسرائيل شعوب مختلفة ومتعددة وليس شعب واحد كما يحلو للمتفائلين أن يعتقدوا)). وهو لا يتورع عن إشعال الضوء الأحمر من خطر “الحرب الثقافية” التي يراها تستعر داخل إسرائيل. وفي المقابل يفاخر رئيس قسم دراسات أوروبا في الجامعة العبرية (القدس) شلومو أفنيري بأنه بعد مائة عام من العمل الصهيوني منها خمسون في ظل استقلال سياسي بدأت تتشكل “أمة عربية إسرائيلية في المستوطن، تتمايز باستمرار عن الدياسبورا اليهودية في الخارج، وخاصة في الولايات المتحدة. لقد أخفقت الصهيونية في خلق اليهودي الجديد في أرض إسرائيل والصبار – سليل الآلهة – لم يولد فعلاً وإنما ظل طيفاً خارج الواقع. وهي عاجزة اليوم عن صياغة “الروحية الجماعية” (إيثوس) التي تلملم شظايا هذا التجمع الاستيطاني في وحدة سياسية، تجعل من إسرائيل دولة عادية كما يقول بن عامي في مقالة له بعنوان “الأواني المستطرقة”. ويؤكد أستاذ كرسي الدبلوماسية (على اسم ناحوم غولدمان في جامعة تل أبيب) دافيد فتال، بأن جذر الخلل في الصهيونية يكمن في منطلقاتها السلبية كونها حددت مواقفها مما ستعمل ضده، وليس مما تسعى إليه في حياة اليهود، وي

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

استشهاد أسيرين من غزة في سجون الاحتلال

استشهاد أسيرين من غزة في سجون الاحتلال

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت هيئة البث الإسرائيلية، مساء اليوم الخميس، إن معتقلين اثنين من قطاع غزة استُشهدا خلال إحضارهما للتحقيق داخل...