الخميس 25/أبريل/2024

عندما يعيد الصقر المنقضّ على “رحوفوت” ذكرى “زرنوقة”

د. أسامة الأشقر

أعاد لي حديث الصقر المنقض على قبة رحوفوت ومقلاعها ذكرى قريتي “زرنوقة” التي أقيمت هذه المستوطنة على مسطح أراضيها، واستوطنها غرباء أجانب قدموا عند استلابها من رومانيا وشرق أوروبا ثم ازدحم فيها هؤلاء الأغراب من كل جحور الأراضي القاصية يقتطعون ما تبقى من أراضينا التي أخُرِجنا منها.
كانت قريتنا الصغيرة قرية فلاحين زراعية ذات تربة خصيبة مستوية الأرض لا نتوء فيها، وتكثر فيها الآبار بين جنات الرتقال التي كانت تصبّ في إنتاجها إلى مصنع سيزر القريب، بينما كان معهد وايزمن المقام على جزء من قريتنا قبل النكبة ينتظر لحظة ابتلاع الأراضي بعد طرد أجدادنا وآبائنا منها.
لم يكتف أولئك الأوغاد الذين ترعبهم صقورنا المنقضّة اليوم باستلاب قريتنا وطردنا منها بل نسبوا تسميتها إلى أسطورة حاخام قديم اسمه “هِيا بار زرنوكا” زعموا أنه مرّ بقربها قبل دهر طويل، وهو أمر لم يسمع به كائن عاش هذه الأرض منذ قرون متطاولة ولم يدوّنه أثرٌ أو شاهد، وقد شرحت سبب تسميتها برزنوقة في كتاب حافل كتبته عن قريتي.
وفي هذه الأيام تلحّ عليّ الآية من سورة القصص: ” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ” فأقول: إن هذا الوعد الإلهي طمأن الله تعالى به عبده محمداً صلى الله عليه وسلم أن الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك العمل به سيردّك من حيث أخرجك قومك من مكة المكرمة، لتطمئن نفسك ويظهر صدقك وتتمكن رسالتك، فالعودة إلى الوطن مطلب نفيس حبيب تتمناه أفئدة الرجال أصحاب الرسالات فضلاً عن عامة الناس الذي جعل الله في قلوبهم غريزة حب المنبت حيث الوطن.
وقرن الله تعالى الضن بالأوطان إلى الضن بمهج النفوس، فالإخراج من الوطن أخو القتل، والتغريب نظير هذا القتل أيضاً عند أهل الفقه والنظر { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } النساء 66
وكيف للإنسان أن ينصرف عن الدفاع عن وطنه إذا أُخرج منه قهراً وغلبةً ، إذ الواجب في نفسه أن يقاتل حتى يسترده، كما حكى ربنا سبحانه عن أحرص الناس على حياةٍ : ” قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا” البقرة 247.
وحنيننا لبلداتنا وقرانا التي أخرجنا منها مقترن بقلوبنا وقلوبنا مقترنة بفطرتنا وغرائزنا ، ونحن وإن كنا من أبناء الجيل الثاني للوطن المنكوب الذي أخرج آباؤنا وأجدادنا منه قهراً، فإننا نتروّح بنسيم ذكراها كما تتروّح الأرض المجدبة ببل المطر .
وأكرم الناس أشدهم تعلقاً بعودته، وتمسكاً بذكراه، وتشبثاً بأصله ومنابته.
وكلما اقتربنا من همس الوطن ونسيمه عبر الحدود المتاخمة أحسَّت النفس بمولدها فتفتَّحتْ مسامُّها فعرفت النَّسيم وقبّلته وداعبته وغدا لها نفَساً لا حياة لها إلا به ، ولا شعور باليتم – إن كان – معه:
ما دام لي وطنٌ ويحضنني فما فقدتُ على مُرِّ الحياة أبا
وهو حال الغريب إذا تذكر أهله وبلاده: فؤاده كجناح طير خافق التياعاً وشوقاً وشفقة .
كل هذا كان يداعب روحي، وأنا أحكي لنفسي عن بلدة أعرف منها بقية خيط الذكرى، ذكرى ساعة واحدة في الثمانينات مررت بها على تلك القرية المدفونة وسط المستوطنات اليهودية بعد هجرة أبي وعمي وجدي وجدتي منها عام 1948م ، بينما أعرف عنها ما أرويه بأكثر من تلك الساعة اليتيمة في حياتي .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات