الأحد 29/سبتمبر/2024

حماس وإدارة الصراع على مسرح العلاقات الدولية

حسام شاكر

نشأت الاتصالات والعلاقات بين الأطراف الدولية وحركة “حماس” من حقيقة أساسية تتمثل في وجود هذه الحركة الفلسطينية الكبرى في صميم المشهد، وحضورها الواضح على الأرض، واتصالها بقضية تقع في صدارة جدول الأعمال الدولي. تمثِّل هذه الحقيقةُ الأرضيةَ التي تنهض عليها الاتصالات والعلاقات. وهكذا باشرت الأطراف الدولية طرق أبواب “حماس” في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، للتعرّف على رؤى الحركة السياسية ومواقفها من مشروعات التسوية وخياراتها، بينما كانت الحركة معنيّة من جانبها بنقل رؤاها ومواقفها إلى العالم، والتعريف بحقوق الشعب الفلسطيني وثوابته. 

البناء على المربّع الأول
كان على أي جهد دبلوماسي فلسطيني حتى نهاية السبعينيات تقريباً أن ينشغل أيضاً بالعناوين الأساسية لقضية فلسطين، مثل تأكيد حضور الشعب الفلسطيني في محاولة إنكار وجوده من دعاية الاحتلال، وكذلك التعريف بالحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرّف. واضح أنّها مرحلة تمّ تجاوزها بفعل نضوج تجربة الشعب الفلسطيني الذي سجّل حضوره المسموع عالمياً عبر عقود متلاحقة من الانتفاضات، والنشاط المقاوم، والجهود السياسية والشعبية. لكنّ استحقاقاً آخر ظلّ يلوح في أفق التواصل السياسي، مع الحاجة إلى إبقاء الحقوق والثوابت الفلسطينية في دائرة الضوء ومخاطر انهماك الفعل السياسي الفلسطيني في المسارات الجانبية والقضايا الجزئية، وهو ما عبّرت عنه “حماس” من خلال ما يمكن تسميته “خطاب الحقوق والثوابت”. 

فبعد أعوام قليلة من انطلاقة “حماس”؛ كان يجري على المسرح الدولي إنضاج التوجّه إلى “عملية سلام الشرق الأوسط”، التي انطلقت رسمياً في مؤتمر مدريد في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 1991. ثمّ تطوّر المسار التفاوضي عبر قنوات خلفية بين قيادة منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية لتخرج اتفاقات أوسلو إلى النور بعد سنتين من ذلك. 

كان تواصل الأطراف الغربية مع “حماس” يجري آنذاك في عمّان، حيث تتمركز قيادة الحركة في الخارج، علاوة على التواصل مع رموزها في قطاع غزة والضفة الغربية. لكنّ الحركة باشرت نسج حضورها في عدد من بلدان العالم العربي والإسلامي أيضاً، وأعلنت عن ممثلين لها في دول عدّة خاصة بعد أن أبعد الاحتلال بعض قياداتها إلى الخارج، بما أتاح لهم تمثيل الحركة مباشرة. 

اعتمدت دبلوماسية “حماس” على ممثليها الرسميين، سواء كانوا مُعلَنين أم غير مُعلَنين، وكذلك على الزيارات والوفود، وعلى المذكّرات والمراسلات مع قادة الدول والحكومات ومؤتمرات القمّة، فضلاً عن أدوار لجهات ثالثة في المشهد السياسي أو المجتمع المدني أو الشخصيات العامّة المتعاطفة مع الحركة. 

لقد أتت بعض التطوّرات لتحفِّز حضور “حماس” في المشهد السياسي، ولتفتح نوافذ جديدة للتواصل، مثل ما جرى تحديداً مع واقعة إبعاد سلطات الاحتلال أربعمائة من قادة الحركة ورموزها من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جنوب لبنان في سنة 1992. وهكذا تحوّل مرج الزهور، وهو المنطقة الواقعة بين فلسطين المحتلة ولبنان حيث مكث المبعدون سنة كاملة في العراء، إلى وجهة للوفود العربية والإسلامية والدولية التي قامت بزيارات تضامنية أو تواصلية، بما أنعش التواصل مع العالم، وقدّم فرصة مثالية أيضاً لقادة الداخل في التواصل مع الخارج.

والثابت أنّ علاقات “حماس” الإقليمية والدولية واجهت وفرة من العوائق والصعوبات المتعلقة بالسياق الزمني، والظرف الإقليمي، والوضع الدولي، وانعكاسات ذلك كله على القضية الفلسطينية وقواها. 

علاقات في ظروف شائكة
يمكن رسم محطات الصعود والهبوط التي عرفتها اتصالات “حماس” وعلاقاتها الدولية، وبالوسع في المقابل فرز المسارات على المستويات العربية والإسلامية والدولية كل على حدة،وإن لم تكن تلك المسارات معزولة بعضها عن بعض. 

والثابت أنّ علاقات “حماس” الإقليمية والدولية واجهت وفرة من العوائق والصعوبات المتعلقة بالسياق الزمني، والظرف الإقليمي، والوضع الدولي، وانعكاسات ذلك كله على القضية الفلسطينية وقواها. 

فابتداءً؛ يبدو من اسم “حماس” أنها حركة “مقاومة”، وهي “إسلامية” أيضاً. ويكفي ذلك ليشكِّل حجاباً نفسياً حاجزاً في التواصل السياسي في زمن صعد فيه الدور الأمريكي، وغلبت فيه الأحكام المسبقة على القوى الإسلامية. لكنّ التحدي الأساس لم يكن الصفة الإسلامية في المقام الأول كما قد يتبادر إلى الذهن؛ بل مشروع الحركة في رفض الاحتلال جذرياً ومقاومته ونبذ الاعتراف به خلافاً للتوجّهات الدولية والإقليمية السائدة، وحتى بما يتعارض مع موقف الرسمية الفلسطينية بدءاً من مطلع التسعينيات.

لم تعمل حركة “حماس” في فراغ، بل واجهت في اتصالاتها وعلاقاتها الدولية عوائق حقيقية كانت منها الحملات المنهجية الإسرائيلية لقطع الطريق على حضورها على المسرح، وهي حملات تمّ تجريبها في السابق بمنهجيات مشابهة تقريباً ضد منظمة التحرير خلال السبعينيات والثمانينيات. لقد سجّلت تلك الحملات نجاحها الأكبر في قرار الاتحاد الأوروبي وضع “حماس” على قائمة الإرهاب، لكنّ ذلك لم يُسدِل الستار على فرص التواصل بين الحركة وأوروبا التي بقيت قائمة، وإن بحثت لها عن مسالك أخرى وقنوات خلفية.  

أمّا الولايات المتحدة التي قامت بدور راعي “عملية السلام”؛ فصنّفت “حماس” في خانة عدائية، واعتمدت سلسلة من العقوبات والمواقف الصارمة ضدّها، بدءاً من عهد الرئيس بيل كلينتون الذي حشدت إدارته ممثلين عن المجتمع الدولي ودول المنطقة في مؤتمر شرم الشيخ سنة 1996 الذي أعلن حملة ضد الحركة. ولم تكن الحال أفضل منه في عهد خليفته جورج بوش الابن الذي قاد حملته العالمية ضد “الإرهاب”، وبدا أنه يُدرج المقاومة الفلسطينية ضمن هذا المفهوم بالتزامن مع حملة آريئيل شارون الضارية ضد “انتفاضة الأقصى” والمقاومة الفلسطينية وفي صميمها “حماس”. 

وقد اتضح مع الوقت أنّ الانقسام في البيت السياسي الفلسطيني قد عبّر عن نفسه في أوضح صوره في مسرح العلاقات الدولية أيضاً. تفيد الوقائع أنّ الرسمية الفلسطينية التي تقود السفارات والممثليات الدبلوماسية حول العالم قد تمسّكت بمقولة “وحدانية التمثيل الفلسطيني” في تبرير توجّهها الحثيث لمناهضة تواصل دول العالم مع حركة المقاومة الإسلامية. وقد برزت أزمة التمثيل تلك حتى عندما تقلّدت “حماس” الحكومة الفلسطينية، وشغلت موقع وزارة الخارجية في سنة 2006. وفي بلد مثل جنوب أفريقيا؛ كانت “حماس” تحوز فرصة جيدة للتواصل وبناء العلاقات مع المستوى الرسمي، لكنّ العلاقة العميقة تاريخياً بين نخبة “المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم مع منظمة التحرير ولاحقاً مع السلطة الفلسطينية، كان لها على الأرجح تأثيرها في سدّ الأبواب والنوافذ. وقد اتضح ذلك جلياً في عرقلة الزيارة التاريخية التي كان الشيخ أحمد ياسين يستعدّ للقيام بها إلى جنوب أفريقيا خلال جولته الخارجية عام 1997 – 1998.

أوجد الافتراق السياسي في الساحة الفلسطينية خطابيْن اثنين على الأقل موجّهين إلى العالم، وبينهما طيف من الخطابات الجزئيّة، وهو ما منح الأطراف الدولية فرصة للتفريق ولاختيار الشركاء

أوجد الافتراق السياسي في الساحة الفلسطينية خطابيْن اثنين على الأقل موجّهين إلى العالم، وبينهما طيف من الخطابات الجزئيّة، وهو ما منح الأطراف الدولية فرصة للتفريق ولاختيار الشركاء، وللّعب على التناقضات الداخلية الفلسطينية أيضاً. لكنّ تلك الحالة من الافتراق كانت تعني أيضاً غياب الإجماع الفلسطيني على الاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، وبالتالي الطعن في مشروعيّتها.

تحريك المياه الراكدة 
إنّ ستار الدخان الكثيف الذي انطلق من الحملات المناهضة لحركة “حماس” من جانب الولايات المتحدة لم يحجب حرص واشنطن على عدم سدّ منافذ الاتصال بالكامل. وهكذا يمكن الحديث عن اتصالات متفرِّقة سعت الدبلوماسية الأمريكية غير المباشرة للإبقاء عليها من محطة إلى أخرى. وليس بعيداً عن ذلك جاءت الزيارات الشهيرة التي قام بها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر إلى قطاع غزة ودمشق بدءاً من عام 2006 للقاء قادة الحركة حاملاً مضامين سياسية محدّدة، وعائداً برسائل إلى راسمي السياسات في بلاده. 

أمّا إدراج “حماس” على قوائم “الإرهاب” في الاتحاد الأوروبي سنة 2005؛ فقد أتاح مجالاً لدول أوروبية ليست عضواً في الاتحاد، مثل سويسرا والنرويج، للقيام بأدوار واتصالات ومبادرات مع الحركة، أو أن تكون فضاء جغرافياً للتواصل الأوروبي معها.

لم يكن ذلك يجري بمعزل عن تطوّرات المشهد. ففوز “حماس” بالأغلبية في الانتخابات البلدية ثمّ التشريعية الفلسطينية في عامي 2005 و2006، كان يحمل رسالة محددة لا تخطئها العين، تتمثّل بعدم جدوى قطع جسور التواصل مع الحركة التي تتصدّر المشهد الفلسطيني. ولولا الخطوة الاستباقية التي تمت بوضع “حماس” على قائمة الإرهاب الأوروبية، لأمكن لعلاقات القارّة الموحدة مع الحركة الفلسطينية الصاعدة أن تمضي قدماً، وقد اتضح بعد الفوز الانتخابي أنّ أوروبا قد كبّلت ذاتها بقرار التصنيف المتسرِّع. 

كانت الفرصة في إنضاج علاقة منفتحة مع “حماس” متاحة بوضوح من جانب بعض الدول الأوروبية، كإسبانيا في عهد الحكومة الاشتراكية بقيادة ثاباتيرو، وإيطاليا في عهد حكومة يسار الوسط في عهد برودي، علاوة على النرويج غير المنضوية في الاتحاد الأوروبي والتي لا تسري عليها التزاماته. أمّا فرنسا المعروفة بسياساتها المُبادِرة؛ فكانت تمتلك القدرة على إنجاز تحوّل في مسار العلاقات بين “حماس” والغرب لكنها افتقرت للجرأة في هذا المسار رغم اتصالاتها المتكررة مع “حماس”. أمّا بعض الدول الأوروبية فظلّت محتفظة بتصلّبها، خاصة ألمانيا وبريطانيا وهولندا، وبالطبع دول وسط أوروبا وشرقها المنضوية حديثاً في الاتحاد الأوروبي، والتي تتماثل عادة في سياساتها نحو الشرق الأوسط مع المواقف الأمريكية. وحتى في بعض هذه الدول؛ كان الخبراء وأساتذة العلوم السياسية وأصحاب التقديرات في مراكز الفكر يبعثون بملاحظاتهم إلى صانعي السياسات؛ بضرورة صياغة مفهوم جديد لعلاقات الدول الأوروبية مع حركة تقود المشهد الشعبي الفلسطيني وتتصدّر مقاومته، لكنّ تغييراً جوهرياً لم يحدث رغم ذلك. 

حماس” تواجه مزيداً من الصعوبات في مجال العلاقات الدولية مع افتقارها للظهير الدولي

تغيّر بيئة التحرّك
الواقع الذي يتجلّى عبر المقارنة مع تجارب الساحة الفلسطينية السابقة؛ أنّ “حماس” تواجه مزيداً من الصعوبات في مجال العلاقات الدولية مع افتقارها للظهير الدولي كالذي حظيت به منظمة التحرير خلال الحرب الباردة من خلال المنظومة الاشتراكية، وغياب الاصطفاف الإقليمي الواضح مع الحقوق الفلسطينية، واضمحلال منظومات العمل المشترك الداعمة على غرار الأدوار التي نهضت بها في السابق جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ودول عدم الانحياز، وحتى المجموعة الأفريقية.

وفي النطاق العربي – الإسلامي؛ وجدت “حماس” نفسها خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إزاء واقع تتجاذبه محاور متعارضة، فبدت أحياناً وكأنها محسوبة على “محور الممانعة” الذي يضمّ إيران وسورية وحزب الله أساس

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

حزب الله يعلن استشهاد القائد علي كركي

حزب الله يعلن استشهاد القائد علي كركي

بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن حزب الله استشهاد القائد الكبير الحاج علي كركي (أبو الفضل)، مع كوكبة من إخوانه المجاهدين في الغارة الصهيونية...