الأربعاء 27/مارس/2024

الأسرى: أحياء موتى بين الظلم والظلام

الأسرى: أحياء موتى بين الظلم والظلام

وحدهُم من يُمكنهم أن يلوموا البلادَ هم أولئك الّذين دَخلوا الموتَ أحياءً فكانت أقدارهم مؤجّلة أو مُعجلّة، هُم الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، والأسير الفلسطيني هو وحدهُ من أشرع لنا أوّل نافذة نتأمل من خلالها الوقت المسروق من عمر والديه، وهو ذاته من علّمنا حب كل شيء حولنا لأن الهواء الكثير الذي يحيط بنا لا نعرفه إلا لحظة الاختناق ولكن ليس مثل اختناق أولئك الأسرى الّذين تجرّعوا العذابات اليومية واختنقوا في براميل ثلثها ماء وثلثها ملح والثلث المتبقّي لُعاب السابقين من الأسرى.
كلّنا نعلم إنّ إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ليس جديداً على الفلسطينيين الأحرار ففي عام 1984 أضرب الأسرى عن الطعام واستمرّ إضرابهم 18 يوماً، وفي إضراب عام 1992 استمر 15 يوماً وفي عام 1996 استمر أيضاً 18 يوماً، وكذلك في إضراب عام 1998 والذي استمر 10 أيام وما تلى ذلك من اضرابات كان آخرها قبل أيام معدودة لكن في هذا الإضراب الأخير وبعد دخول معركة الأمعاء الخاوية يومها السبعين وبعد أن أصبح هذا الرقم بمثابة سبعين قيامة عاجلة حلّت على شعبنا الفلسطيني، أدركتُ يومها أن هذا التحدي الفلسطيني وهذا الأسير ذاته الذي أضرب قبل ثلاثة عقود وما زال للآن أسيراً، وهذه الحرب أحادية الجانب لم تكن كما قال المحللون والمنظرون والسائحون سياسيا أنها حرب مطالبها إخراج الأسرى من سجنهم الانفرادي والسماح لهم برؤية ذويهم والمطالبة بالحد الأدنى من المعاملة كأسرى حرب ومطالبة الأمم المتحدة والجمعيات والمنظمات العالمية للالتفات إلى مطالبهم وإرسال لجان تحقيق للتأكد من سلامة أوضاعهم الصحية والقانونية وما إلى ذلك، هي بكل تجلياتها كانت معركة وصرخة ضدنا نحن العرب وليس ضد الاحتلال الغاشم، فنحن من ينقصنا هذه الشجاعة نجد دائما فلسفة نفسّر بها ذلك كما قال المفكّر الفرنسي البير كامو، فبعد تجاهل العالم بأكمله معاناة الأسرى الفلسطينيين وبعد الإضراب الأول مؤخراً والذي لم يحظ باهتمام شعبي ورسمي كما يجب حتى على مستوى وسائل الإعلام العربية وانحصر على وسائل التواصل الاجتماعي الوهمية ولم نصل نحن العرب يوماً تجاه القضية الفلسطينية بواقعها الحقيقي إلى مرحلة الفعل واكتفينا بالاعتراض الرمزي للفعل ومتى؟ فقط قبل ساعة الموت بأيام، بعدها بدأت هذه الحرب والتي كان سلاحها الجوع، فلم يتوّقف الإضراب عن الطعام إلا بعد أن سمعنا صوت الجوع يعلو صوت القذائف فكان لا بد من حراك حقيقي يُعيد مكانة هذا الإنسان المقيد خلف القضبان إلى إنسان حر أمام قضبان صمتنا. رغم أن الفلسطيني هو أول عربي نطق في أثير الشرق الأوسط من إذاعة القدس وكان أول من طالب ونادى بالروح الثورية والنهضة العربية القومية وبضرورة الوقوف في وجه هذا الاستيطان وهذه الامبريالية الأمريكية، ومع ذلك تعرّض الفلسطينيون لخذلان عربي وفلسطيني أيضا من داخل فلسطين، فكان أولئك العملاء الذين قايضوا سريرهم بالوطن هم وراء دخول عدد كبير من الأسرى خلف قضبان الاحتلال وفي هذا الطرح لا يصلح إلا أن استذكر عبارة قرأتها يوماً لأحد الفلاسفة “أن النصر يبدأ بعشر طلقات.. تسعة طلقات للخونة وواحدة للعدو”.
وما لم يعرفه الانثروبولوجيون وعلماء الفسيولوجيا الذين أسهبوا في تحليل شجون الأسرى أن هذا الأسير الفلسطيني قد تعفف عن المستقبل بحيث أعاد إنتاج ذكرياته لدرجة أوصلته مرحلة الاستغناء عن هذا العالم الحداثي والالكتروني الذي نعيشه والذي أفقدنا لذّة الاستمتاع بكلّ التفاصيل الصغيرة، فلا يُمكن أن تكون هنالك صورة أجمل من الخــيال الذي ننميه كما نُحب وليس هنالك خيال أوسع من خيال أسير مضى عشرين عاماً يرمّمُ ماضِ لم يمض لأن الحاضر لم يحضر بعد لحظة أسرهِ .
الإسرائيليون في كل يوم يحاولون التسلل إلى التاريخ ويهربون من حاضرهم العكر، ومن يتأمل الإفراط في صناعة التاريخ وتسلّقهم على مبادئ دينهم الذي شوّهوه، ومن يرى تقمّص السجان ملامح الضحية قبل قتلها ،يَعلمُ أن هذا كلّه ينمو من نقص الهوية الوطنية والتاريخية والإنسانية لديهم.
بالأمس سمعتُ في النشرة الإخبارية لإحدى الإذاعات الفلسطينية أنّ الحكومة الإسرائيلية تقوم ببناء قبور وهمية حول مناطق مقدسية وفي أحياء قريبة من مستوطنات يهودية للاستيلاء على أراضٍ فلسطينية بطريقة غير شرعية، وأيضاً قيام تجار بشراء الحجارة القديمة للبيوت الفلسطينية لإلصاقها على جدران بيوتهم بعد مزجها بالطين الأحمر وليس الاسمنت ليصدق المارّة تاريخ البناء القديم وتاريخ الدولة التي يدّعونها، وبذات الوقت ينقل لنا الأسرى المحررون حال إخوتهم في السجون الإسرائيلية وعن طرق تعذيبهم التي لا تنتمي للإنسانية وأين؟ في بين الإله كما يدّعي الصهاينة وهو اسم احد المعتقلات الإسرائيلية “بيت آيل أي بيت الإله  بمعناه الحرفي، إلا أن كل ما يحدث فيه لا يدل إلا على معبد للشيطان وليس غير ذلك… فهذا هو الاختلاق التاريخي والديني والذي يسعى الإعلام الصهيوني والمردوخي لنشره في العالم لتصديقه والأيمان بالوجود التاريخي للصهاينة على أرض فلسطين. وأنا على يقين تام أن الأسير المحرر لا ينقل لأهله وأصدقائه كل ما معاناته في أسره وذلك لاعتبارات لا أحد يعلمها سواه.. تماماً مثلما هو الشاعر الحقيقي الموغل بآلام شعبه وقضيته والذي لا يمكنه أن ينشر كل قصائده التي يكتبها لاعتباراتٍ أيضاً لا يعرفها سوى الشاعر المسكون بشجنه.
مازلتُ أذكر رسالة ذاك الأسير الذي أمضى عشر سنوات في سجن الرملة مشلولاً، وللآن مازلتُ أشعر بخجل تجاهه، وبأنّي مدين لهُ بطريقة ما، فكتبَ إلى وزير شؤون الأسرى والمحررين أنا الأسير… أتسلّق على حُلمي بعكازين من الخيال والاستعارة كي أرى غدي، وكلما وصلتُ الفجرَ صدّني وجعي وقال: أنت ناقص من التابوت والشمس، أتقاسم الوجع مع زملائي كي نرفع الموت الموت قليلاً… نراكُم من ثقوبِ جلودنا تعيشونَ حياتكم بدلاً منّا، لنا هنا الموت ولكم هناك الأوسمة.
وأنا أقول له ولأصدقائه وأشقائه في أيّ جغرافيا فلسطينية مسروقة ومسلوبة الاسم:
أيّها الأسير الفلسطيني إن كُنتَ تقرأنا في مكان ما… تأكّد يا ابن أمّي أن من يُفاوض باسمك ومن قدم أنين والديكَ تنازلاً، ودجّنَ وحدتكَ ليس دفاعاً عنك… هو لا يُفاوض إلا باسمه وحده… أما نحن لن نُقايض عمرك المسروق بأكياس معونة بائسة… ولن نمتطي هذا الغياب ونعدو… حيفا لن تُصبح “خيفا” إلا لو شاء رب الفلسطيني.
أيها الأسير الفلسطيني كُنتَ ومازلتَ دليل الحر منّا… والحر منّا هو الدليل عليك.
* كاتب وشاعر فلسطيني
صحيفة القدس العربي اللندنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات